قد يكون الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز خسر معركته مع الجسد، بعدما تمكن مرض السرطان أمس من التغلب عليه إثر صراع طويل، لكن الأكيد أن «الكومنداتي» ربح معركة أكبر ستحفر في التاريخ تاريخاً جديداً يمتد إلى سنوات وسنوات مقبلة. الرفيق الراحل شهد خلال حياته على إرهاصات هذه المرحلة التي لن تنتهي برحيله، فالحالة لم تعد فنزويلية، بعدما تخطى الراحل حدود وطنه إلى عموم القارة اللاتينية. ولعل الشخصيات المتربعة على رئاسة العديد من الدول في القارة تشهد على أن «الحالة التشافيزية»، التي حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها احتواءها، باتت ظاهرة عصيّة على التدجين.
الخسارة ليست، ولن تكون لاتينية، بل أممية، وفق ما أراد الرئيس الراحل، الذي سعى إلى مناصرة قضايا المظلومين في العالم، وعمد إلى مواجهة غزوات الإمبريالية الأميركية العسكرية والسياسية والاقتصادية. ولعل الخسارة العربية ستكون الأبرز. كيف لا والرجل كان المدافع الأول عن القضية الفلسطينية وحق المقاومة، حتى أنه اعتبر نفسه ناصرياً، إلى حد أطلق عليه وصف «فتى العروبة الأغرّ».
«تشافيز مات... آخر خبر على الراديوهات». جملة كان من الممكن أن يغنيها الشيخ إمام لو كان لا يزال حياً، تكريماً للرفيق الراحل، كما كرّم الثائر الأممي أرنستو تشي غيفارا. في تلك الأغنية، التي كتبها الشاعر أحمد فؤاد نجم، نعي للمناضل الأرجنتيني، لعله ينطبق تماماً على الراحل الفنزويلي. «مات المناضل المثال... يا ميت خسارة عالرجال»، تعبير يليق بالرئيس العصامي الثائر، الذي شق طريقه نحو الرئاسة الفنزويلية بمسيرة نضالية طويلة، بدأها مبكراً من صفوف الجيش، وأدت به المنفى والسجن والانقلاب والانقلاب المضاد، قبل أن يصبح شخصيّة أممية يبكيها المستضعفون في العالم من أقصاه إلى أقصاه.
تشافيز ليس مجرد ضابط نجح في الانقلاب على النظام السابق ليتولى زمام الأمور، ولا هو رجل سياسي أتى ليُنفّذ برامج دول أو منظمات خارجية على غرار العديد من زعماء دول العالم. فهوغو رافاييل تشافيز فرياز، أصبح في كانون الأول عام 1998 أصغر رئيس في تاريخ فنزويلا ليحوّلها الى جمهورية بوليفارية ثورية تحاكي كوبا، قلعة قائده الروحي فيدل كاسترو.
صاحب القميص الأحمر الشهير، الذي وُلِد في 28 تموز عام 1954 في الكوخ الطيني لجدته روزا إنيز تشافيز في قرية سابانيتا الفقيرة المعدَمة، ظل وفيّاً للفقراء الذين عايشهم في أفقر أحياء بلد يعوم على النفط. فمنذ تسلّمه السلطة بعد انتخابات ديموقراطية في 6 كانون الأول عام 1998، عكف تشافيز على تشكيل دستور جديد للبلاد يستوحي أفكار محرر معظم دول أميركا اللاتينة من الاحتلال الإسباني سيمون بوليفار (1783 – 1830).
هذا الانجاز، الذي استمر حتى الآن رغم ما تعرض له حكمه من محاولات انقلاب واحتجاجات وضغوط أميركية، لم يكن وليد لحظته، إذ إن الجنرال الأحمر عمل عليه لسنوات طوال. فالطفل، الذي تكفلت جدته روزا بتربيته لانشغال والديه بمهنة التدريس، كان مولعاً بالبيسبول، ولم يكن يستخدم في هذه اللعبة، بسبب فقره المدقع، سوى الأخشاب المصنوعة باليد كعصي لضرب الكرة. وقد يكون حبّه لهذه الرياضة أحد أسباب التحاقه بالأكاديمية العسكرية لكراكاس عام 1970، حيث تخرّج منها عام 1975برتبة مقدّم وحصل على شهادة «ليسانس» في العلوم والفنون العسكرية. ثم ترفع لرتبة عقيد في الجيش عام 1990.
شخصية الثائر الأممي بدأت تتشكل في الجيش. فالرجل عُرف بحبه الشديد للقراءة، وتأثر بالأفكار الاشتراكية، وخصوصاً التجربة الكوبية. لذلك كان يحاول دائماً المزاوجة بين نظريته في الاشتراكية العلمية وانتمائه للديانة المسيحية، حتى أنه اعتبر المسيح أول اشتراكي في التاريخ.
وفيما كانت الطبقة الحاكمة وكبار الضباط في الجيش يتقاسمون ما ينهبونه من عوائد النفط الذي تشتهر به فنزويلا، كان الضابط الذي تربى على حكايات أبطال التحرير، التي كانت جدته ترويها له منذ نعومة أظفاره، يساهم في تشكيل حركة عسكرية سرية أطلق عليها جيش تحرير الشعب الفنزويلي (ELPV). كما أسس في العام 1982، «الحركة الثورية البوليفارية» MVR وهي حركة يسارية تعلن أنها الناطق السياسي باسم فقراء فنزويلا.

ماركس الملهم

المفارقة الجميلة في حياة الضابط الأحمر، أنه بدلاً من أن يطيع أوامر ضباطه في قمع حركات الاحتجاج الشعبية على الفساد، كان يدعم هذه الحركات. ولعل ذهنيته المعارضة، التي تأسست على معايشة معاناة الشعب الفنزويلي، رغم الثروة الطبيعية من الذهب الأسود، هي التي ساهمت في تشكبل وعي الشاب الطموح الذي استفاد من برنامج إعادة هيكلة الأكاديمية العسكرية. برنامج كان يعتمد على تثقيف الضباط بدراسة متعمقة لبيان الحزب الشيوعي، ومعظم المؤلفات الماركسية، بهدف مواجهة الحراك الشيوعي في المنطقة آنذاك، إلا أن الأمر جاء على نحو مختلف مع تشافيز الذي خضع لدراسة مقارنة بين ما كان يقرأه من أفكار شيوعية تحررية وما روته له روزا عن الأبطال المحررين للبلاد من الاستعمار وناهبي الثروات القومية.
فتاريخ الزعيم الثوري كان النبع الأول الذي نهل منه، ليؤسس في ما بعد علاقات قوية وواسعة مع مجموعة من الأحزاب الشيوعية واليسارية، ويساهم في تشكيل الخلايا الانقلابية السرية، بدءاً بجيش تحرير المجتمع الفنزويلي، ومروراً بالحركة الثورية البوليفارية، وانتهاءً بحركة الجمهورية الخامسة، التي ترأسها في العام 1997، بالتزامن مع تسلمه وزارة الداخلية التي لم يدم فيها طويلاً اذ سرعان ما تحوّل الى المعارضة بسبب بعض الخلافات مع السلطة.
لعل نقطة الصفر في سياق نضال الرجل من أجل تغيير السلطة بدأت في 4 شباط 1992. يومها ترأس تشافيز حركة الضباط الشباب للقوات المسلحة، ليعلن تمرده على نظام اجتماعي وسياسي كان ينخره الظلم والفساد. بيد أن امكاناته الذاتية والظروف الموضوعية لم تسمحا له بإطاحة حكومة الرئيس السابق كارلوس أندرياس بيرس. لذلك كان مصيره السجن الذي قضى فيه عامين تمكن خلالهما من تشكيل نواة شبابية لعمله الثوري من وراء القضبان.
في العام 1994، كان خروجه من السجن مناسبة ليتنفس هواء العمل الثوري بشكل منظم، بتشكيل حزب سياسي سماه «حركة الجمهورية الخامسة» (1997–2008).
من الواضح أن نشاطه الحزبي كان أفعل من كونه ضابطاً في الجيش، فقد أهله في السادس من كانون الأول عام 1998، ليُنتخَب رئيساً لجمهورية فنزويلا وليصبح أصغر رئيس في تاريخ البلاد، بنسبة تفوق 56 في المئة من الأصوات التي حصل عليها تحالفه اليساري «القطب الديموقراطي»، منهياً أربعين عاماً من هيمنة حزب الاجتماعيين الديموقراطيين على الحكم.
لكن هذا التحول في حياته سبقته إرهاصات سياسية ساهمت في إقناعه بضرورة خوض التجربة الانتخابية، وخصوصاً بعد فوز زميله في قيادة الانقلاب السابق، زميل السجن، فرانشيسكو أرياس كارديناس، في منصب المحافظ لولاية زوليا الغنية بالنفط عام 1997.

«الحسناء والوحش»

وكانت تجربة صعبة للضابط المغضوب عليه من السلطة في أن يخوض منازلة انتخابية رئاسية، وخصوصاً ضد منافسته الشقراء الفاتنة، ملكة جمال العالم السابقة، آيريني ساييز، رئيسة بلدية كاراكاس. وبدأت الصحافة تتحدث يومها عن منافسة حامية بين «الحسناء والوحش»، بيد أن حظوظ «الوحش» كانت أفضل بكثير من «الحسناء» التي تكلمت فنطقت كفراً، كاشفة خواءها الفكري، ربما لأنها لم تعمل وفق المثل الفرنسي (كوني جميلة واصمتي).
واستطاع تشافيز في انتخابات رئاسية عام 2000 ترسيخ رئاسته لست سنوات، بعد أن أحرز 60 في المئة من الأصوات. لكن بعد فترة قصيرة من ذلك التاريخ وقع الانقلاب الفاشل الذي رتبته طبقة رجال الأعمال وزعماء النقابات العمالية القدامى، الذين فقدوا امتيازاتهم بسقوط الأحزاب السياسية المرتبطة بالخارج، إلا أن هذا الانقلاب لم يدم أكثر من 48 ساعة، ليعود تشافيز زعيماً شعبياً بامتياز.
وبدا الالتفاف الشعبي حول الثوري البوليفاري بشكل أوضح عام 2004، حين حاولت المعارضة إحراجه بطرح استفتاء على رئاسته. إلّا أن الضربة ارتدت سلباً على المعارضة نفسها، بعد أن صوّت 59 في المئة من الشعب لمصلحة بقاء تشافيز في السلطة.
وتواصلت رحلة المظلي السابق مع كرسي الحكم، في الدورة الرئاسية الثالثة التي فاز بها في انتخابات عام 2006. فوز كان مناسبة ليعيد الرجل تحديث آليات العمل الثوري عبر حلّه لحركة الجمهورية الخامسة وتأسيس الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد. ويمكن القول إن بداية الفترة الرئاسية الثالثة كانت المنعطف الأبرز في مسيرة البوليفارية، حيث بدأت الحكومة بتطبيق نظام اجتماعي قائم على المساواة والعدالة الاجتماعية في إطار نظام اشتراكي يتناسب مع ظروف الفنزويليين وحياتهم.
ولتجديد الحياة السياسية، أعلن تشافيز في 2007 عدداً من الاصلاحات الاقتصادية والسياسية ضمن حملة للتطهير، معلناً الانتصار على البرجوازية. وتمكن تشافيز بعد تعديل الدستور من التمتع بفترة رئاسية رابعة، حين فاز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 7 تشرين الاول 2012 على منافسه إنريكه كابريليس، بفارق نحو 10 في المئة من الأصوات.
مسيرة الرجل الحافلة بالنشاطات السياسية والطموحات الثورية في عالم تغلب عليه سيطرة القطب الواحد، أثارت حفيظة الولايات المتحدة، التي تنظر إلى أميركا اللاتينية على اعتبارها حديقتها الخلفية، ولا سيما وهي ترى أن الرجل بات له تأثير على الدول الأخرى، التي انتخبت رؤساء على شاكلته، بدءاً من إيفا موراليس في بوليفيا، مروراً برفاييل كوريا في الإكوادرو، وصولاً إلى خوسيه موخيكا في الأورغواي. محاولات كثيرة عمدت إليها واشنطن لمحاصرة نفوذ الرئيس الراحل، إلا أنها فشلت في هزيمة كاريزما الرجل، الذي لم يوفّر فرصة لمناكفة «زعيمة الإمبرالية العالميّة». قد تكون واشنطن اليوم مغتبطة لرحيل تشافيز، لكنها تدرك أنه سيبقى رمزاً لأجيال، وأنه سيترك إرثاً لن تمحوه بسهولة.



«سائق الشاحنة»

مع رحيل تشافيز، باتت الأنظار معلقة على نائبه نيكولاس مادورو، الذي كلفه الرئيس الفنزويلي بإدارة البلاد في الفترة الأخيرة من مرضه. «هو ثوريٌّ، رجل ذو خبرة كبيرة على الرغم من شبابه، يعمل بتفانٍ كبير ولديه القدرة على العمل». بهذه العبارة، قدّم تشافيز إلى أنصاره اسم المرشح لخلافته.
مادورو، ابن الخمسين عاماً، ولد في كاراكاس وأتمّ دراسته الثانوية فيها، ولم يكمل دراسته الجامعية. أول حضور سياسي لمادورو، عندما كان يعمل سائق شاحنة، بدأ بالعمل النقابي غير الرسمي في مترو كاراكاس في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، حين كان العمل النقابي في المترو محظوراً.
وتعود صداقته مع تشافيز إلى 1992 حين كان يحاكم الأخير بتهمة تدبير الانقلاب الفاشل. حينها كان مودورو معه في الزنزانة. وبعد خروجه ساهم بنضاله السياسي في إطلاق سراح تشافيز في 1994 وتوطدت العلاقة بينهما إلى أن شارك مادورو منسقاً سياسياً إقليمياً خلال حملة تشافيز الانتخابية في سنة 1998.