«عماد مغنية رُصد في العراق. ربما لم تسمعوا عنه من قبل، لكن كل ضابط استخبارات في الغرب يعرف اسمه جيداً. له اتصالات بتنظيم القاعدة وببن لادن. وبعض التفجيرات الأخيرة في بغداد والنجف تحمل بصماته» («ذي واشنطن تايمز» ــ أيلول 2003). «هو أكثر الإرهابيين الأحياء الذين يُخشَون في الشرق الاوسط. سلّمته إيران أخيراً إدارة عمليات ثماني مجموعات إسلامية متطرفة في المنطقة» (وكالة «يونايتد برس انترناشيونال» ــ 2006). «عماد فايز مغنية. العقل المدبّر للإرهاب. يُقال إنه غادر لبنان الى إيران أخيراً.
لكن معلوماتنا عنه قليلة جداً، ولا يوجد له أكثر من ثلاث صور. يُطلق عليه اسم الحاج. ووكالة الاستخبارات المركزية تكثّف جهودها الآن لتوقيفه أو لقتله» (تقرير القمة الاستخبارية الاميركية ــ 2006).
لم يغب اسم عماد مغنية عن التقارير الاستخبارية والصحافية الأميركية حتى بعد انتهاء الحرب اللبنانية، وأُقحم في كل حدث أمني جلل تتعرض له الولايات المتحدة منذ التسعينيات، مروراً بهجمات 11 أيلول حتى حرب العراق. وقبل سنتين فقط من اغتياله، نشرت أخبار في الإعلام الاميركي عن «تكثيف السي آي إي جهودها لقتله»، لكونه «كُلّف من السلطات الإيرانية بتنفيذ عمليات ضد الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة للضغط في ملف برنامجها النووي».
التقارير حول مغنية ترفق دائماً بسجلّ طويل لعمليات أمنية نوعية نسبت اليه من دون أي دليل؛ من تفجير السفارة الاميركية واستهداف قوات المارينز في بيروت عام 1983 وخطف طائرة «تي دابليو إي» عام 1985 (وهي الحادثة الوحيدة التي تتهمه فيها السلطات الاميركية رسمياً) وتنفيذ عمليات خطف عديدة في بيروت لمواطنين غربيين خلال الثمانينيات، وتفجير السفارة الاسرائيلية في العاصمة الارجنتينية عام 1992، وتفجير مركز المجتمع اليهودي في بوينس آيرس عام 1994، واستهداف أبراج الخُبر في السعودية عام 1996، وتفجير السفارات الاميركية في دول أفريقية عام 1998، وتفجير «يو إس إس كول» عام 2000، وصولاً الى تأسيس خلايا لحزب الله في العراق بعد الغزو الأميركي والإشراف على تنفيذ عمليات أمنية ضد القوات الاميركية هناك وتدريب مقاتلي حركة «حماس».

الإرهابي الأسطورة

المسؤولون الأميركيون والإعلام الغربي لم يكتفوا بأبلسة «مغنية ــ الارهابي». نشروا حوله روايات أشبه بمغامرات خيالية. ابتكروا له صورة رمزية. صورة «الإرهابي ــ الأسطورة». فهو الذي عجزت الاستخبارات والقوات الاميركية عن توقيفه حيّاً طوال فترة رصده منذ الثمانينيات. ضباط سابقون كُلّفوا بملاحقته ــ مثل روبرت باير ــ فنّدوا بعض أساليب التخفي التي اتبعها، وعمليات التمويه في تنقلاته. البعض تحدّث عن لجوئه الى تغيير شكله وملامح وجهه ليتمكن من عبور المطارات والتنقل بين مختلف بلدان المنطقة. هو الذي «أتلف كل صوره بعيد انخراطه في العمل الأمني... حتى إن والدته لا تملك أي صورة له»، وهو الذي «يغيّر السيارات التي يتنقل فيها بشكل يومي»، والذي «لا يحدد أبداً مواعيده عبر الهاتف»، والذي «رغم كل ما ارتكبه، لا يمكن إلا أن نعترف بعبقريته وثقافته الواسعة وقدراته المهنية العالية»، وقد «استحق عن جدارة لقب الثعلب».
وعندما اغتيل في 12 شباط 2008، انهالت «روايات رسمية» وأخرى «سرية تكشف للمرة الاولى» في الإعلام الغربي والأميركي خصوصاً، حول شخص مغنية وتاريخ ملاحقته وظروف استشهاده. معظم تلك الروايات لم تسهم سوى في تثبيت «الأسطورة» التي سبق أن حيكت في الأذهان الغربية عن «الإرهابي الأكبر الذي لم تسمعوا عنه قطّ». حتى إن البعض قالوا إنه «نتيجة لحياة مغنية السرية، فإن وفاته جعلت من التفريق بين الأسطورة والحقيقة أمراً مستحيلاً».

«ناشط حتى يوم مقتله»

إضافة الى التهليل لموته، وتكرار عبارة «العالم بات أكثر أماناً بعد رحيله»، تناقلت الصحف بعيد اغتياله تقارير سرية حول الظروف التي سبقت عملية الاغتيال. البعض تحدّث عن «قمة إرهابية» حضرها مغنية الى جانب «الرئيسين الايراني والسوري والأمين العام لحزب الله ومسؤولين في الجهاد الإسلامي وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». «المعلومات الدقيقة حول القمة»، دفعت بأجهزة الاستخبارات الاميركية في أواخر عام 2006، حسب التسريبات الصحافية، الى رفع درجة الانذار حول مغنية وأخذ القرار بتفعيل ملاحقته، «إذ تبيّن أنه لم يتقاعد بعد». صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية مثلاً نقلت عن مصادر إسرائيلية أن مغنية «كان يخطط وقت مصرعه مع السوريين لشنّ هجوم ضد أهداف إسرائيلية انتقاماً من الغارة الجوية التي شنّتها الطائرات الحربية الاسرائيلية، على ما قيل إنه موقع نووي سري في دير الزور في أيلول عام 2007». مصادر في «سي آي إي» أشارت الى «الدور الذي أوكل إلى مغنية قبيل اغتياله، وهو الاستعداد الميداني لأي مواجهة مستقبلية بين إيران والولايات المتحدة». «ظلّ مغنية ناشطاً حتى يوم مقتله»، كرر مستشار جورج والكر بوش لشؤون الإرهاب والأمن القومي فرانسيس فراغوس تاونساند.
روبرت فيسك، الصحافي البريطاني، قابل مغنية في تشرين الأول عام 1991 في طهران من أجل التوسط لصديقه تيري أندرسون، رئيس مكتب وكالة «أسوشييتد برس» الذي خطف في بيروت لما يقارب سبع سنوات. «محدّثي كان يتمتع بشخصية واثقة بالنفس إلى حدّ مخيف، وبالإيمان العميق في ما يفعل، وهو شيء يتشارك فيه مع أسامة بن لادن، والرئيس الأميركي جورج دبليو بوش». «منظمة مغنية عذّبت أعداءها، كما فعلت «القاعدة»، وكما يفعل جيش السيد بوش»، تابع الصحافي في مقاله حول الاغتيال في صحيفة «الإندبندنت» بعنوان «النهاية الدموية للرجل الذي جعل من الاختطاف سلاحاً في الحرب». فيسك ختم بالقول «إنّ من يعيش بالسيف يموت بالسيف».

ما بعد الاغتيال

حول مرتكب جريمة الاغتيال، حاول البعض بدايةً توجيه أصابع الاتهام الى النظام السوري، «نظراً الى الخرق الأمني الكبير الذي سمح بإتمام العملية بنجاح». وكان لافتاً إشارة معظم المحللين الى أن إسرائيل والولايات المتحدة هما «المستفيدان الأساسيان من إزاحة مغنية عن الساحة».
باركي أشار للصحيفة الى أن «تل أبيب حاولت مرات عديدة تصفية مغنية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وأنها جمعت كميات هائلة من المعلومات عنه، لكن كلما حصلت على معلومات أكثر زادت صعوبة الوصول إليه بسبب عدم وجود نقاط ضعف يمكن إسرائيل استخدامها، مثل تناول المشروبات الروحية أو العلاقات النسائية أو المخدرات».
«إيماد مُرْنية... إيماد مُررنيّا... دعوني ألفظ اسمه كما يجب. هو الشخص الذي احتل المرتبة الاولى على لائحة مكتب التحقيقات الفدرالية للمطلوبين الارهابيين، قبل إدراج أسامة بن لادن عليها»، قالت مذيعة «سي بي إس نيوز» لضيفها مائير داغان. رئيس «الموساد» صحّح لها لفظ الاسم على الهواء وقال بوضوح: «عماد مغنية». في أيلول عام 2012 خصصت فقرة من برنامج «60 دقيقة» حول اغتيال مغنية، وسئل داغان عن صحّة رواية إشرافه، من مكتب في تل أبيب، على مجريات العملية في دمشق. «كنت في دفن والدتي عندما تمّ الاغتيال، وزوجتي شاهدة على ذلك»، أجاب داغان باسماً.

إرثه في حزب الله

بعد استشهاد مغنية، هوّل الإعلام الأميركي من احتمال استهداف حزب الله الولايات المتحدة أو المصالح الاميركية في الخارج، ردّاً على تصفيته. ومع تصعيد الاتهامات الموجهة الى «حزب الله» في عدد من العمليات الأمنية ضد المصالح الاسرائيلية في الخارج، تحدّث البعض عن استمرارية «إرث عماد مغنية» في الحزب اللبناني. لكن آخرين لفتوا الى فشل حزب الله في تنفيذ عمليات كثيرة، خصوصاً في أوروبا الشرقية، وردّوا الأمر الى «ضعف أصاب الجناح المتخصص في ذلك» بعد رحيل «أبو تلك العمليات». وهنا خلص هؤلاء الى القول إنه «ما من وريث فعلي لمغنية في حزب الله»، أقلّه بنفس مميزات القائد السابق.

لماذا قتل مغنية؟

التحليلات التي تلت اغتيال مغنية ربطت الحادثة بتطورات إقليمية وإشارات دولية تشترك فيها دول عدّة.
الباحث جوشوا لانديس رأى مثلاً أنّ البعض اعتقد أن من بين أهداف اغتيال مغنية حصر سوريا وحلفائها في حلقة مفرغة وسط عمليات قتل انتقامية، والتي يمكن أن تفوز بها واشنطن فقط. وفي في مثل هذه الحرب، يضيف لانديس، سوف تنجح آلة الاعلام الغربي في رسم دمشق كمركز للإرهاب، ثمّ تضغط واشنطن على الأوروبيين للانضمام إليها في فرض مزيد من العقوبات على سوريا.
وفي دراسة لـ«مجموعة الأزمات الدولية» عام 2009 تحت عنوان «التحاور مع دمشق؟ دروس التجربة الفرنسية»، يُذكر اغتيال مغنية ضمن حلقات الاشتباك التي شهدتها دمشق وباريس. وتشرح الدراسة أنه في نهاية عام 2007 رفض السوريون الخطة الفرنسية القاضية بانتخاب ميشال سليمان رئيساً للبنان، ما أغضب الرئيس نيكولا ساركوزي، فوجد السوريون أنفسهم، مرة أخرى، وحيدين مع إيران. وتشير الدراسة إلى أنّه منذ تلك اللحظة «بدأنا نشهد عناصر غير مريحة، مثل اغتيال عماد مغنية، والغارة الإسرائيلية على دير الزور، التي قد تثير تصعيداً جديداً مع الولايات المتحدة، وبعض التقديرات تشير إلى أزمة «أيار» (أحداث السابع من أيار) في بيروت، إذ إن السوريين فوجئوا وارتبكوا بإجراءات حزب الله خلال تلك الأزمة». ويضيف التقرير أن هذه الجرعة الاخيرة ساهمت في الوصول الى اتفاق الدوحة الذي لا يقدم في العمق أكثر من العرض الفرنسي.
«المعهد الألماني للشؤون الخارجية والأمنية» يلفت من جهته، في دراسة أجريت في أيلول عام 2009 حول «إدارة الصراعات الأوروبية في الشرق الأوسط»، إلى أنّه «بعد اغتيال مغنية باتت حسابات حزب الله مفتوحة، وهو يواصل تخزين الأسلحة رغم محاولات الحظر الدولي».
باراه ميكاييل في دراسة في «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية الفرنسي»، تحت عنوان «سوريا: لماذا الهجمات؟» (2008)، يرى أن «سوريا، بعد أن كانت لسنين طويلة من أكثر الدول أمناً واستقراراً، واجهت مجموعة من الهجمات ــ من بينها اغتيال محمد سليمان وعماد مغنية ــ تزامنت مع ضغوط غربية تريد من سوريا أن تغيّر سلوكها». الدراسة الفرنسية تلقي الضوء أيضاً على الجماعات الإسلامية في سوريا، وتصف وضعها بـ«غير البسيط». وتوضح أن ذلك لا يعني جماعة الإخوان المسلمين، ولكن التشكيلات السلفية على غرار تنظيم «القاعدة»، وغيرها كتلك التي تعمل في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وتلفت إلى أن هذه الجماعات سوف تستفيد من أيّ محاولة لإثارة القلاقل، واستدعاء تاريخ الصراع مع الإخوان، وأنهم (أي الإسلاميين) أنشأوا بالفعل خلايا في الأراضي السورية».
… «الحقيقة أن أسطورة مغنية كانت كبيرة جداً إلى درجة لم يكن أحد يعتقد أحياناً بوجود مثل هذا الرجل»، يقول مغنوس رانستروب، الخبير المتخصص في شؤون حزب الله في كلية الدفاع الوطني السويدية في استوكهولم، والذي تعقب نشاطات مغنية لسنوات عدة. «أسأل نفسي أحياناً ما إذا كان مغنية شخصاً حقيقياً أم هو من نسج الخيال، إلا أن وكالات الاستخبارات التي كنت أتصل بها كانت متأكدة من وجوده!».
ويلاحظ رانستروب أن «هذا الرجل تميّز منذ أوائل التسعينيات بحذر شديد غير اعتيادي لتغطية تحركاته، حيث كان يقسم وقته بين بيروت وطهران التي انتقل إليها مع أسرته في 1990. لذا، بدت دمشق في ذلك الوقت مكاناً غير مرجّح للبحث عن مغنية كي يصفّي أعداؤه حسابهم معه».



4000 جندي يطاردونه في البحر

في ذكرى اغتيال مغنية الأولى، خصصت قناة «سي بي إس نيوز» تقريراً حول العملية النوعية التي كانت تهدف الى توقيفه في الخليج الفارسي. وإذا صحّت المعلومات التي وردت في التقرير، فإن تلك العملية (في عام 1996) كانت أضخم بكثير من العملية التي استهدفت زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في باكستان عام 2011.
وفي تقرير «سي بي إس» يروي قائد البحرية جون غاريت، للمرة الأولى في الإعلام، كيف تمّ التجهيز لعملية التوقيف الكبرى بعدما رصدت الاستخبارات الاميركية مغنية على متن سفينة شحن تدعى ابن طفيل.
«أربع سفن حربية أميركية، 4 آلاف عنصر من المارينز، قوات برية وبحرية وجوية، وترسانة عسكرية كاملة جهّزت من أجل تنفيذ العملية»، يكشف غاريت. ضابط البحرية يشير الى الجهوزية التامة التى وُضع فيها العناصر المشاركون، عديداً وعتاداً وإمكانيات، من أجل تنفيذ عملية ناجحة على سفينة وسط البحر. غاريت يشير الى أن «أحد القادة العسكريين المسؤولين عن العملية، ويدعى توم شورت، تسلّم صورة من الصور القليلة جداً لمغنية كي يتعرّف الى شكله قبل المباشرة في العملية». شورت نفسه رأى أن «مجرد التفكير في أن ذاك الرجل كان المسؤول عن موت 250 عنصراً من المارينز، يجعلك تريد النيل منه... ولكن ليس فقط من أجل ما فعله في السابق، بل لمنعه ممّا سيرتكبه في المستقبل في حال لم نقبض عليه». شورت يضيف: «لم أرَ في حياتي هذا المستوى من العمل الاستخباري الذي أحاط بالعملية. فخلال 48 ساعة فقط كان في حوزتنا خرائط السفينة، وشكلها وصور لها، كما هويات أفراد طاقمها وعتادهم وجداول أعمالهم... كان مدهشاً بالفعل تمكّننا من الحصول على هذا الكم من المعلومات الاستخبارية».
غاريت بدوره أشار الى أن «تفاصيل الخطة كانت تدرس على مدار الساعة، دقيقة بدقيقة طوال 24 ساعة». بيل ماكسوين، أحد قنّاصي البحرية، يقول إنه «كان هناك أربع فرق من القنّاصين المجهّزين على متن السفن» ويضيف: «نظراً لحساسية العملية، كان لدينا قنّاصان على طوافات أيضاً.
في ليل 24 تموز، أدركنا أن ساعات قليلة كانت تفصلنا عن النيل من هدفنا، «كنّا كالكلاب المربوطة بانتظار أن ننطلق»، يروي ماكسوين. 60 عنصراً كانوا سيصعدون سرّاً على متن السفينة، إضافة الى عشرات عناصر الكوماندوس ومئات آخرين كانوا سيفتشونها ركناً ركناً».
… لكن، وبكلمة واحدة من واشنطن، ألغيت العملية قبل ساعات قليلة من تنفيذها، والسبب المذكور وقتها «أننا نعجز عن التأكد إن كان الهدف (مغنية) ما زال على متن السفية أو لا».
«لقد فوّتت عليّ أكبر فرصة للنيل من مغنية... لماذا لم تنتهِ تلك العملية بشكل مختلف؟»، كتب مكسوين في يومياته. أما شورت فيتذكر يوم هجمات 11 أيلول ويقول «عندما شاهدت الطائرة تضرب ذاك البرج، فكّرت مباشرة، هل لمغنية علاقة بالأمر؟ هل كانت له يد في التخطيط لذلك؟ ماذا لو كنا قبضنا عليه يومها؟».