إذا كان هناك من لا يزال يملك أوهاماً حول ما سمّي تجاوزاً «الربيع العربي»، فإن الكاتب والصحافي المصري أحمد ناجي القابع الآن في زنزانة مصريّة، لأنّه كتب رواية، يعيدنا عنوة إلى فجاجة الواقع. لقد كان حلماً مجهضاً للأسف. لا خيار إلا مواصلة النضال من أجل عيش كريم في دول حديثة، تحتكم الى قوانين عادلة، خارج دائرة الاستبداد والفساد، وضد انغلاق المتزمتين وجزمة العسكر في آن معاً. لكنّنا حالياً بعيدين قروناً ضوئيّة عن أبسط بادرة تقدّم أو تغيير: ما عشناه في السنوات الخمس الأخيرة، رغم التضحيات العظيمة، ليس الا قفزة هائلة إلى الوراء، عزّزت الفقر والتخلف والعمى الفكري، والتطرّف باسم الدين، والتبعية للقوى الاستعماريّة. ما حدث هو ردّة فظيعة أجّجت العصبيّات المذهبيّة والدينيّة والعرقيّة، وفتّتت مجتمعات ومزّقت أوطاناً، وزادت البؤس الاجتماعي والتخلّف الاقتصادي… وفوق كل ذلك خفّضت سقف الحريّة.منذ أسبوعين طعن أسلام بحيري بالحكم عليه بالسجن لسنة واحدة بتهمة «ازدراء الأديان» في برنامجه على «القاهرة والناس». وقبله بأيّام حكمت المحكمة على الكاتبة فاطمة ناعوت بالسجن ٣ سنوات بسبب تغريدة عن «الأضحى». لكن أحمد ناجي أُدخل السجن حقّاً قبل يومين بتهمة «خدش الحياء العام»، وبمادرة من النيابة العامة التي أستأنفت حكم براءته! ما هو الحياء العام؟ تبعاً لأية معايير نحدد مَن يُخدش، وكيف يُخدش؟ الروائي الشاب ضحيّة «مواطن»، انزعج من أحد فصول روايته «استعمال الحياة» المنشور قبل عام في «أخبار الأدب». وها هي «دعاوى الحسبة» التي شردت نصر أبو زيد، «غاليليه» العربي، وقتلته قهراً، تعود لتطلّ بوجهها المقيت فوق عاصمة النهضة، وبلد طه حسين! في مصر ٨٢ مليون مواطن، لو أن واحداً في المئة منهم فقط نجح في منع هذا العمل الابداعي أو ذاك، لأنّه «خدش حياءه»، فإن مصر ستتحوّل محكمة تفتيش كبرى، وأرضاً يباباً.
عرفَت الثقافة المصرية في العقدين الأخيرين من عهد مبارك امتحانات صعبة ومريرة. هُمّش كتاب، وصودرت أعمال، وحوصرت أصوات حرّة، واقيمت دعوات «حسبة»، واغتيل فرج فودة، وطُعن نجيب محفوظ، وهُجّر نصر حامد أبو زيد… لكن كم كاتب دخل السجن من أجل رواية؟ مبارك على الأقل، كان يشتغل على احتواء المثقفين بدل زجّهم في السجن! قضيّة أحمد ناجي وحدها، تقول في أي نفق طويل دخلنا، وفي أي زمن ظلامي نعيش. وكيف أن السلطات التي امتطت الغضب الشعبي، أسوأ من سابقاتها، بل أن ديناميّة «الربيع» أعطتها شرعيّة أكبر للقمع، وازدراء الحريات العامة. هذه السلطات ليس من مصلحتها أن تصلح في التمثيل السياسي، ولا تستطيع القيام بتقديم حلول تنموية لشعب مصر، وفوق كل ذلك هي عاجزة عن حماية مشروع «التنوير» العزيز على قلب جابر عصفور، وتحدّي الجزء المتشنّج من المجتمع. كيف تفعل وهي تخاف منه، لا بل تشبهه وتتساوى معه في الرجعيّة والمحافظة؟ دعت «دار التنوير» إلى مؤتمر احتجاجي بعد غد، تضامناً مع أحمد ناجي. ولعلّ الاحتجاج الوحيد المتبقي ـــ حسب دعوة فايسبوكيّة لسامح قاسم وأحمد صوان وزياد إبراهيم ـــ أن يقوم المبدعون بحرق أعمالهم على طريقة ابن رشد والتوحيدي. مصر السيسي لم تعد تتسع للفكر والابداع.