إذا كان كتاب التاريخ سيحوي يوم 25 يناير بوصفه لحظة انهيار الحكم الديكتاتوري لمحمد حسني مبارك وبقايا الساداتية في مصر، فإن الصفحات التالية، ستكون مشرّعة لحجم ونوعية التغيير الذي أحدثته هذه الانتفاضة التي يمنع حتى اليوم استمرارها نحو ثورة تسقط النظام لا الحكم. اليوم، يصعب على أحد التقدم بمطالعة حاسمة. الأسئلة من شأنها رفع منسوب التشكيك بقدرة الحكم الجديد على إنتاج التغيير الكبير. لكن كما يقول سمير أمين، فإن «الشعب المصري شجاع، ولن يخاف من إشعال انتفاضة ثانية وثالثة». وهذا تقويم واقعي بعد الذي حصل خلال عامين. لأن الاشتباك المستمر داخل مصر ومن حولها وعليها، هو المؤشر الأوضح إلى أن البديل المفترض أو المقترح لم يتمكن من تثبيت أساسات تقدر على منحه عمراً كالحكم الذي سبقه.
ما زلنا نذكر الآلة الإعلامية الضخمة التي حاولت، ولا تزال، ربط انتفاضة الشعب المصري بأنها تستهدف عائلة موجودة في الحكم فقط. أراد كثيرون من داخل مصر وخارجها، إقناع الجمهور بأن المحفزات العميقة للحراك إنما تقتصر على تعديل في الصورة الرئاسية. وهؤلاء، صاروا يملكون نفوذاً قوياً داخل مؤسسات الدولة، وعلى مستوى الآليات المؤثرة في الرأي العام، ويعيدون الإمساك بآليات الإنتاج العام والخاص، ويريدون لمصر وللعرب اختتام الاحتفالات بالنصر وإسدال الستارة، وكأن التغيير تحقق واكتمل.
نعود إلى سمير أمين، الذي يدل على الخطر الحقيقي الكامن في القوى الخارجية المؤثرة على مصر، وهو يشير مباشرة إلى «المشروع الأميركي – الإسرائيلي – الخليجي» الهادف إلى أن تبقى مصر «دولة رأسمالها التسول من الخارج»، وبالتالي «منحازة ومساعدة للسياسات الأميركية في المنطقة»، وموضحاً بقوله: «لقد ساندت مصر (حسني مبارك) التدخل الأميركي في العراق، وتدمير الدولة العراقية وتحويلها لدويلات عرقية»، ليضيف أن «مصر حالياً (حكم الإخوان المسلمين) تساعد السياسات بالنسبة إلى سوريا». وهذا يقوده إلى الاستنتاج المفصلي بأن تبقى مصر «خاضعة للمشروع الصهيوني في تصفية الوجود الفلسطيني داخل أراضي فلسطين المحتلة، بل والتوسع خارج حدود فلسطين».
لا حاجة لتكرار ما يقوله سمير أمين في السياسات الاقتصادية؛ إذ إن كل المؤشرات والمعطيات بشأن برامج الحكم الجديد تقوم على أساس الاندماج في السياسات ذاتها التي كانت قائمة. أي لا تغيير في بناء السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية لهذه الدولة. يعني، عودة إلى المثل القاسي «خيرت الشاطر = جمال مبارك مع لحية».
لا أحد يقدر على تجاهل الإنجاز الضخم الذي قام به الشعب المصري لإطاحة نظام فاسد واستبدادي وتابع للغرب الاستعماري، وخانع أمام المشروع الصهيوني. لكن الحكاية لا تتوقف عند فوز «الإخوان المسلمين» بأغلبية ضئيلة حتى يعتبروها شرعية تتيح لهم التصرف بكل البلاد. ومهما كان النقاش قاسياً وصعباً حيال واقع المعارضة الجديدة، فإن الأسئلة الصعبة تقفز لوحدها إلى الواجهة:
ــ ماذا حل بتركة الحكم السابق، من طريقة التفكير إلى واقع المؤسسات، إلى السياسات العامة، إلى طبيعة التمثيل الاجتماعي والطبقي للحكام؟ وما معنى الثوب الإسلامي لحكم يعتمد سياسات هي نفسها التي قامت سياسة التعبئة على اعتبارها مصدر الفقر والجهل والبلاء؟
ــ ما حققه المواطنون المصريون لاستعادة حريات في التعبير قمعها الحكم السابق بالدم والأسر، لا يمكن اعتباره هدية من الحكم الجديد. بل إن الأصوات ترتفع في مصر سائلة عن الضمانات التي تحفظ ما تحقق من مكاسب حتى اليوم. وهل لنا أن نتوقع تداولاً للسلطة بعد سنوات قليلة، أم تبديلاً في الأشخاص، وهل يقود الحكم الجديد مصر نحو استعادة الهوية الوطنية الموحدة، أم سنشهد المزيد من الصور البشعة للانقسام الطائفي ومعارك الكسر بين أقلية وازنة وأغلبية ضعيفة؟
ــ أي تغيير حقيقي طرأ على السياسة الخارجيّة لهذا البلد الكبير؟ أي دور له في استرداد العمل العربي؟ أم نحن أمام لعبة «تسليم» الدفة لمتخلفي القرون الوسطى من دول الخليج؟ وهل تسير مصر نحو استعادة حقوقها وسيادتها وحريتها في الوقوف إلى جانب أهل فلسطين من أجل استعادة الأرض؟ أم نحن أمام «حيلة» فاتت الشهيد ياسر عرفات في السعي إلى تدجين المقاومة، على قاعدة: التنازل عن الحقوق مقابل الخلافة وحكم المرشد؟
ــ هل لأحد اليوم تقديم تقدير يشير إلى أن ما سرقه الحزب الوطني بزعامة آل مبارك والحاشية، في طريق الاسترداد، أم نحن أمام عملية القضاء على الثروة الوطنية بنقلها من يد طفيلية اقتصادية عامت على وصفات صندوق النقد (مثال أحمد العز) إلى زمن القاعدين فوق آبار النفط والغاز؟
لكن السؤال الأكبر، الذي يتردد صداه في كل العالم العربي والإسلامي، هو المتعلق بالدور الجديد لحركة «الإخوان المسلمين»، حيث الصراع الديني عميق جداً هذه الفترة في كل العالم. لقد نجح جورج بوش وأسامة بن لادن في رفع الغطاء عن الإناء المضغوط، وباتت الحركة الإسلامية الصاعدة، يتقدمها «الإخوان»، أمام تحدي الثورة الفكرية والسياسية والأدواتية لهذا التنظيم الهرم؛ لأن البديل هو تنافس مع تيار سلفي أكثر رجعية، بمساندة الغرب الصليبي، ومباركة العنصرية الصهيونية.