آمال وتوقعات كثيرة ارتبطت بسقوط نظام حسني مبارك، لم تقتصر فقط على الملفات الداخلية في مصر، سواء السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي منها. فمصر، أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان، وصلة الوصل بين آسيا وأفريقيا، فقدت فعاليتها في الإقليم العربي والأفريقي على مدى سنوات حكم الرئيس المخلوع، نتيجة تفرد الأخير برسمها وفقاً لمنظوره لمصالح مصر.
لذلك، هلّل البعض لسقوط مبارك بوصفه إيذاناً بعودة مصر العروبة، ومقدمةً للخروج من حلف الاعتدال العربي لتحتل مصر مكانها الطبيعي زعيمةً للعالم العربي تحدد هي السياسات لا تعمل على تطبيقها. البعض الآخر رأى أن في انهيار مبارك فرصة ستفرض خلالها مصر نفسها من جديد في القارة السمراء، لتنهي سنوات من الترهل في السياسة الخارجية، كان من أخطر نتائجها تهديد الأمن القومي المصري من البوابة الأفريقية في أكثر من ملف بإيعاز إسرائيلي وتواطؤ من بعض الدول الأفريقية.
لكن حسابات البيدر لم تتطابق، في معظم الملفات، مع حسابات الحقل، في ظل جملة من الأسباب والاعتبارات الموضوعية وجد حكام مصر الجدد أنفسهم مجبرين على العمل في ظلها، وفي مقدمتها الأوضاع الداخلية التي تمر بها البلاد منذ عامين وتميزها بحالة من عدم الاستقرار إن على صعيد الشارع السياسي أو في مؤسسات الحكم. وهو ما جعل جماعة الإخوان المسلمين، التي حلت مكان المجلس العسكري في الحكم عبر الرئيس محمد مرسي في حزيران من عام 2012، أي قبل 7 أشهر فقط، مشغولة في معارك داخلية وتقاتل على أكثر من جبهة بهدف تثبيت حكمها، الأمر الذي ترتب عليه وقوع الحكام الجدد في جملة من الأخطاء أضعف الجبهة الداخلية.
وترافق ذلك مع تدهور غير مسبوق في الاقتصاد، في ظل تراجع هو الأول من نوعه في سعر الجنيه، ما جعل الدولة تستجدي قرضاً من صندوق النقدي الدولي سيرتب في حال إقراره نتائج كارثية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر تهميشاً، إضافة إلى إبقاء التبعية للغرب، فيما وجدت دول مثل قطر الفرصة السانحة لاستغلال هذا الوضع الاقتصادي المتدهور لابتزاز مصر بخلفية وأثمان اقتصادية سياسية، وصلت إلى حد التجرؤ على البحث عن موطئ قدم في قناة السويس، التي توفّر لمصر موقعاً استراتيجياً على الخريطة العالمية.
كنتيجة لهذه الأزمات الداخلية، كان التعاطي الرسمي المصري مع ملف السياسة الخارجية بوصفه ملفاً ثانوياً. وترافق ذلك مع غياب رؤية واضحة للحكام الجدد تحدد مصالح ودور مصر في المرحلة المقبلة، إن في الساحة العربية، الإقليمية، الإسلامية وحتى الدولية.
وبدت السياسة الخارجية المصرية مربكة، رغم المتغيرات الخطيرة التي تمر فيها المنطقة في هذه المرحلة. ولعل من بين أبرز سمات هذه المرحلة، وجود لاعبين كثر على الساحة الإقليمية بات على مصر مزاحمتهم لاقتناص دور لها. فالتنافس على الزعامة في المحيط الإقليمي والعربي لم يعد يقتصر على مصر، والسعودية وحتى سوريا، فلكل من تركيا وإيران وحتى قطر طموحاتهم.
وتنظر جميع هذه الأطراف بنحو ضمني إلى مرض مصر وتراجع تأثيرها في محيطها العربي والأفريقي بأنه فرصة يجب استغلالها، فيما أي تعافٍ سياسي أو اقتصادي لبلاد النيل من شأنه أن يضرب طموحات هذه الدول. لكن يبقى لمصر أوراقها الرابحة التي تخولها الحصول على موقع متقدم إذا ما تراجعت حدة الأزمة الداخلية ونجح نظام مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في رسم استراتيجية واضحة لدور مصر في المرحلة المقبلة.
أولى الأوراق الرابحة تأتي من الحدود الشرقية حيث فلسطين المحتلة. وفي فلسطين تحديداً كان التعويل مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للحكم على حدوث تحول جذري في الموقف المصري ازاء الصراع العربي الإسرائيلي والحصار المفروض على غزة، وخصوصاً أن حركة حماس خرجت من رحم الاخوان المسلمين في مصر وتعد طفلها المدلل، فضلاً عن أن جماعة الإخوان رسخت نفسها طوال حكم مبارك في مقدمة المناصرين للقضية الفلسطينة. وكان أنصارها يخرجون دوماً في التظاهرات نصرةً لفلسطين مرددين «على القدس رايحين شهداء بالملايين»، ومطالبين بفتح معبر رفح للجهاد.
لكن هذا التعويل سرعان ما تبدد. فلا مصر اتخذت موقفاً ضاغطاً لوقف الحصار، ولا معبر رفح شرع أبوابه للفلسطينيين ذهاباً وإياباً بشكل دائم أو للمصريين الراغبين في الجهاد، ولا الغاز المصري توقف عن التدفق إلى إسرائيل أو تحول إلى غزة التي لا تزال العتمة بين الحين والآخر تتهددها بسبب النقص في المشتقات النفطية الكفيلة بتشغيل المحطة.
ووسط هذا الوضع، لا يمكن إغفال أنه يبقى لرجال الاستخبارات في مصر كلمتهم الفصل في عدد من الملفات، ومن بينها الملف الفلسطيني، سواء أكان في الحكم جماعة الإخوان المسلمين أو أي طرف آخر، وهو ما برز خصوصاً في ملف المصالحة الفلسطينية، وحتى في صفقة التوصل إلى وقف لإطلاق النار بعد حرب غزة الأخيرة.
ورقة رابحة أخرى بإمكان مصر الركون إليها تتمثل في الدور المعول عليه كصمام أمان لمنع الفتنة المذهبية في المنطقة. وفي ظل الرغبة الإيرانية الجلية في تحسين العلاقات مع مصر وتطويرها، على عكس العلاقة الفاترة مع كل من السعودية وتركيا، تستطيع القاهرة وكذلك الأزهر، أن يكونا رائدين في هذا المجال متى اتخذت مصر قراراً جريئاً بالتخلص من حالة الخوف التي تعتريها لإيجاد مقاربة للتقارب مع إيران. كذلك يتعين على مصر أن تعمل على تهدئة المخاوف الخليجية منها، بعد حالة الفزع التي أصابت هذه الدول، ولا سيما الإمارات العربية المتحدة والكويت، من أن يكون وصول الإخوان للحكم مقدمة لتعزز نفوذ الإسلاميين في هذه الدول، مع ما يحمله من مخاطر حدوث تغيير غير مرغوب فيه. وهي خطوة إن تمت بالتوازي مع تحسن العلاقات مع إيران، تستطيع من خلالها مصر أداء دور اضافي في تهدئة التوتر في الخليج. ولا يمكن الفرصة أن تكون سانحة لمصر أكثر من اللحظة الراهنة، في ظل أحدث المؤشرات الإيرانية التي تجسدت في اقتراح وزير الخارجية الإيرانية علي اكبر صالحي أن تجري الجولة المقبلة من المحادثات النووية بين ايران ودول «5+1» في القاهرة، مع ما يمكن أن يمنحه لذلك للقاهرة من فرصة على «طبق من ذهب» للعودة بقوة على الساحتين الاقليمية وحتى الدولية، في ظل العلاقة الجيدة التي تربط حكم مرسي بالأميركيين في ظل حفاظ نظامه على معاهدة كامب دايفيد مع الإسرائيليين وتقديمه تعهدات للأميركيين بعدم المساس بها.