أراد فرانسوا هولاند أن يكون باراك أوباما فتحوّل الى جورج بوش. أرادت فرنسا أن تحافظ على آخر مناطق سيطرتها في القارة الأفريقية فدخلت في حرب لا تعرف متى وكيف ستخرج منها. هو الرئيس الفرنسي الذي فاجأ الصحافيين والمحللين بمعمودية نار في مالي وفي الصومال، تناقضت مع خطابه الانتخابي والرئاسي حين كرر أن «زمن الاستعمار الفرنسي في أفريقيا ولّى»، ووعد بأن «فرنسا لن تتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أفريقية بعد اليوم».

لكن الإعلام الفرنسي بمعظمه تبنّى الخطاب الرسمي والرئاسي، فـ«شرعن» الهجمات ورفض إطلاق أي صفة «استعمارية» عليها، وسلاحه في ذلك: قرار أممي مؤيد، وطلب النجدة من الرئيس المالي وترحيب من الماليين ودعم غالبية الأفرقاء في الداخل الفرنسي. أصوات قليلة سياسية وصحافية دانت العمليات العسكرية ونبّهت من شبح «محافظين جدد» يهيمن على السياسة الخارجية الفرنسية. وبعض الصحف والقنوات التلفزيونية الرسمية أتقنت في الأيام الأخيرة فنّ البروباغندا الحربية على الطريقة الأميركية أيضاً، فهلّلت لانتصارات باكرة وقدّست حرباً غير مصوّرة ينفذها جنود أبطال ضد الإرهابيين الأشرار. حتى إن بعض التسميات مثل «ساحلستان» ظهرت في بعض العناوين.
يبقى أن المؤيدين والمعارضين للهجمات الفرنسية اتفقوا على كلمة واحدة تصف الدور الذي تلعبه فرنسا في أفريقيا منذ زمن حتى اليوم بـ«الشرطي».
و«الشرطي الأبيض» الذي «روّض» «الأفارقة السود» على مدى قرون يلبس اليوم حلّة جديدة، فهو أصبح «الشرطي الذي ينقذ الشعب من ديكتاتور» (ليبيا 2011) و«الشرطي الذي يحارب الإرهابيين» (مالي 2013). وقد استغلّ الرئيس الحالي التسمية الثانية للحصول على إجماع خارجي وداخلي لافت وتلميع صورته التي بهتت سريعاً بعد انتخابه. لذلك وصف فينسان جيريه، في صحيفة «ليبراسيون»، إعطاء هولاند الضوء الأخضر لعملية عسكرية في مالي بـ«المنعطف» في مسيرته الرئاسية. ووضع تحرّك الرئيس تجاه «خطر نشوء دولة إرهابية في قلب القارة السوداء» في إطار «تحمّله المسؤولية» كرئيس لفرنسا.
ولكن هل كانت فرنسا محقّة في التدخل في مالي؟ سأل ألان فراشون مدير تحرير صحيفة «لو موند». فراشون أراد من سؤاله، كما يقول، أن يشير الى «خطر عودة النزعة الاستعمارية الجديدة في أفريقيا، التي أمِلنا أن تكون انتهت»، وإلى خطورة «خوض دولة غربية حرباً جديدة في أرض الإسلام». فراشون شرح كيف «ستحيي التدخلات العسكرية الفرنسية في أفريقيا الشعور الاستعماري لدى الرأي العام العربي والإسلامي، وكيف ستغذي الكره الذي يكنّه بعض الجهاديين والسلفيين المرتبطين بالقاعدة، تجاه فرنسا». الكاتب أضاف «نعرف كيف نطلق هذه العمليات العسكرية لكننا لا نعرف أبداً كيف ستنتهي أو على الأقل نعرف أن بعضها انتهى بشكل سيّئ». فراشون يصف ما يسميّه الأميركيون «نايشن بيلدينغ» (Nation Building) أي «محاولة تولّي إنقاذ دولة في طريقها إلى الانهيار وإعادة إعمارها كحال مالي» بـ«بالمغامرة الأكثر خطورة والتي نادراً ما تتكلل بالنجاح». رغم ذلك يثني فراشون على خطوة هولاند العسكرية ويعدّها «الخيار الأقلّ ضرراً».
الضرر هو ما تحدّث عنه فرانسوا سيرجان في مقاله في «ليبراسيون» تحت عنوان «شرطي». سيرجان ركّز على الأضرار الجسيمة التي بدأت تظهر منذ اليوم الثالث للعملية في عدد القتلى المدنيين وفي صفوف الجنود، وطلب من الرئيس أن يحدد أهداف العملية وحجمها وطولها. الكاتب أشار الى المهمة شبه المستحيلة لفرنسا في ردع المدّ الإسلامي في مالي واستعادة سيطرتها على شمال البلاد. وخلص سيرجان إلى القول «إن فرنسا باستطاعتها أن ترسل ما تشاء من الطائرات الحربية، لكنّ القوة العسكرية لا تبني بلداً يعدّ من بين الأكثر فقراً في العالم». ويردف «قد يستقبل الماليون المرهقون الجنود الفرنسيين بالترحيب الآن، لكنهم لن يتحمّلوا طويلاً وجود جيش الاستعمار القديم على أراضيهم، ولهم الحق في ذلك».
لكن الباحث باسكال بونيفاس في «مركز العلاقات الدولية والاستراتيجية» يرفض الكلام على نزعة استعمارية في سياسة فرنسا الخارجية المرتبطة بالأحداث الاخيرة. ويقول «إن وصف العمليات في مالي بالاستعمارية هو أقرب الى ردّ الفعل منه الى التحليل». ويضيف «إن التدخل باسم تفوّق القيم الغربية على الآخرين هو أمر مكروه تماماً كما الامتناع عن القيام بشيء من أجل بلد وشعب في خطر».
من جهته، انتقد جان دومينيك ميرشيه في مجلة «ماريان» لجوء المسؤولين الفرنسيين الى تسمية المستهدفين في عملية مالي بـ«الإرهابيين» و«الإرهابيين المجرمين» على طريقة جورج والكر بوش و«الحرب العالمية على الإرهاب». الأمر الذي وصفه ميرشيه بـ«المضحك والخطير».
أما جيل باريس في «لو فيغارو» فقد ذكر أن كل الظروف كانت مؤاتية كي يقود هولاند من الخلف على طريقة باراك أوباما... لكن يبدو أن الميدان لم يسمح بذلك وغيّر تكتيك فرنسا المرجوّ». بيار هاسكي طرح من جهته، على موقع «رو 89»، تحدّيين أساسيين على الرئيس هولاند تستوجبهما خطوته الأخيرة وهما: أن ينجح في عمليته بكل جوانبها، أي فرض سيادة مالي على كامل أراضيها وإحلال الديموقراطية وتأمين حقوق الطوارق. والتحدي الثاني حسب هاسكي، هو استكمال إعادة تعريف السياسة الفرنسية في أفريقيا والعلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية.