ياسر عبد اللطيف *في عام 1994، كنتُ في مستهل حياتي العملية. بالكاد تخرجت في الجامعة، وأعمل محرّراً مساعداً في مجلة ثقافية. بعد يوم العمل، كنت أقضي ما تبقى من النهار على أحد مقاهي منطقة باب اللوق في وسط القاهرة. وفي مرة، كنت جالساً في مقهى «زهرة البستان» الشهير، على شرفته الرئيسية التي يسميها الرواد المخضرمون «المنصة»، وكان يجلس بالقرب مني «الملك» وليم إسحق، وهو تشكيلي شيوعي قديم من رعيل «معتقلي الواحات».

وجاء شخص مشدوه لا أذكر من هو على وجه التحديد ليخبر الملك أنّه قد لمح للتو غالب هلسا يعبر شارع طلعت حرب. كانت خمسة أعوام أو ما يزيد قد مرّت على وفاة هلسا، لكن الملك لم يندهش، وأومأ موافقاً وقال: «يعملها غالب!». هكذا كانت صورة الأردني التائه في القاهرة: واحد من أولياء الله «أهل الخطوة»، هو حاضر في القاهرة التي أحبّها بعد موته، يعبر الشارع الذي عبره مئات المرات، وهو في اللحظة نفسه في سفينة تحمل رجال المقاومة الفلسطينية إلى عدن، وهو في بيروت، ودمشق، وبغداد، وفي عمّان. مواطن عربيّ يحمل سمات ذلك الزمن القومي، برغم انتمائه الماركسي الصريح. عاش غالب أكثر من حياة، وأنا أميل إلى تصديق أنه لم يعش في هذه المدن على التعاقب، وإنما عاشها في الزمن نفسه.
يكتب غالب في مدونته الروائية حياته ولا شيء غير، مُستخلصاً طبقة من تحت طبقة في سرده المكتوب بالدم. كاتب من نسل سقراط وكيركغارد، تحوّلت حركته في الحياة إلى نسق جمالي وعالم روائي. هي حياة عيشت حتى الثمالة، حد الانخراط في تنظيمات سرّية والاعتقال في مختلف العواصم التي عبر بها، حد حمل السلاح للمقاومة في قضية هي الأكثر عدالة. في القاهرة التي عاش فيها الجانب الأكبر من حياته الإبداعية (نحو 22 عاماً)، انخرط مع رفاقه ومجايليه من جماعة الستينيات المصرية: بهاء طاهر، وإدوار الخراط، وجميل عطية، وإبراهيم أصلان وإبراهيم منصور وعلاء الديب وباقي الشلة. وشاركهم في تحرير مجلة «غاليري 68» المعبرة عن طموحاتهم الفنية في أعقاب النكسة. وكان غالب، إلى جوار الخراط وإبراهيم فتحي، من أكثرهم إسهاماً في الجهد التنظيري، ناقداً ومحللاً لأعمال أبناء الجيل. ولا عجب أنه لم يكن يخفي انحيازه لأكثرهم شبهاً به، ألا وهو عبد الحكيم قاسم، الذي اتكأ منجزه الروائي والقصصي هو أيضاً على خبرته الذاتية. هلسا وعبد الحكيم قاسم، لطالما اعتبرتهما سلفيّ المباشرين، على ما يباعد بيني وبينهما من مسافات فكرية وأمزجة، وعلى الرغم من تأثري المباشر بكُتاب آخرين من الجيل نفسه أو من أجيال وثقافات أخرى. وكنت أنظر لنفسي باعتباري امتداداً لذلك التيار، سمّه تيار «كتابة الخبرة الذاتية»، أو تيار «الكتابة الوجودية» بالمعنى المنهجي لا المذهبي لتلك الكلمة التي باخ استخدامها. وكثيراً ما أُسيء تفسير هذه الكتابة، وقُرئت باعتبارها ضرباً من السيرة الذاتية، ليواجهك غالباً السؤال المُحرج: «هل حدثت تلك الأشياء بالفعل؟». ورأى فريق آخر أنها كانت «موضة» سادت في كتابة جيلي، جيل التسعينيات، تدليلاً بالوسوم النظرية نفسها التي رافقت إبداعات ذلك الجيل «كتابة الحياتي المعيش» أو «أدب التفاصيل اليومية». ولم يفطن أحد أنّ ذلك المزاج قديم قِدَمَ صنعة الكتابة نفسها. وكنت كثيراً ما أتساءل عقب كل حوار عبثي من هذه الحوارات: ألا يعرفون عبد الحكيم قاسم؟ ألم يقرأوا غالب هلسا؟ بعد ارتحاله عنها بعقدين وما يزيد، وتطوافه بعدة مدن مع مغامرات سياسية مثيرة واستقراره الأخير في دمشق، استعاد غالب القاهرة في روايته الأخيرة «الروائيون»، الأقوى من وجهة نظري بين أعماله. سردية بديعة عن خبرة اعتقاله مع مجموعة من اليساريين عام 1966، تلك التي عُرفت بـ «حبسة سارتر» إذ تدخّل المفكر الفرنسي الشهير الذي زار القاهرة آنذاك لدى عبد الناصر بشكل ما للإفراج عن هذه المجموعة بعد اعتقال دام نحو ستة أشهر. ومن ثم تابع راوي هلسا مصائر ذلك الفريق، الذي كان جلّه من الروائيين وأشباههم بعد خروجهم من السجن، وتبعات ووقع هزيمة 67 عليهم وعلى حياتهم الشخصية والعاطفية في رصد شفيف، ومن مكانه الدائم كراصد عابر وشخص مجروح في مواطنته. ثمة أسى عميق يغلف كلَ ما كتبه هلسا عن القاهرة، بخلاف نبرة الحنين التي تطبع كتابته الاستعادية عن بادية الأردن، كما في «سلطانة» أو في مفتتح «البكاء على الأطلال». ذلك الأسى هو تكثيف لما سماه يحيى حقي «أشجان العضو المنتسب». وقد تكون «الروائيون» أعمق ما كُتب عربياً حتى الآن عن ذلك الحدث المُزلزِل.
مات غالب بعد نشر هذا العمل مباشرةً. مات في يوم مولده نفسه المسجل في الأوراق الرسمية 18 ديسمبر (كانون أول). وقد ذهب الكاتب الفرنسي غريغوار بوييه، وهو ينتمي إلى السلالة نفسها بشكل ما، إلى أن لدى الإنسان تلك الغريزة لأن يخرج من المكان نفسه الذي دخل منه، أن نستعير الشق نفسه في الزمن الذي استطاعت الروح أن تتجسد عبره في جسد. وبناءً عليه، فقد غادر قطّ البراري الأردنية من الفرجة الزمنية نفسها التي جاء منها.
* روائي وشاعر مصري