دمشق | سيكون صعباً استعراض النتاج الإبداعي الضخم الذي تركه ممدوح عدوان، من دون أن يكون الذهول أبرز انطباعاتنا. «الرجل المؤسسة» ترك وراءه 26 مسرحية، 20 مجموعة شعرية، روايتين، خمسة كتب نثرية، 25 كتاباً مترجماً، وأكثر من 20 مسلسلاً! وإذا كان المعهود في حالات مماثلة أن يتركّز الثقل الفكري في صنفٍ، أو بعض صنوف الإبداع التي نشط فيها الكاتب، فإن الأمر في حالة عدوان يبدو مختلفاً، وربّما متفرّداً.
تبرز في سيرة عدوان عشرات المحطّات المثيرة بتقاطعاتها مع الراهن السوري. المفارقة أنّ أولى تلك المحطات كانت مع اسمه، هو الذي سمّاه أهله «مدحت» أوّل الأمر، قبل أن ينصحهم أحد الأصدقاء بضرورة تغيير الاسم «لأنّه تركي ويجب تغييره بسبب المآسي التي عاناها الشعب السوري إبان الحكم العثماني لسوريا». من المحطات اللافتة أيضاً، تحضر مسرحيّة «لماذا تركت السيف»، التي كتبها عدوان، وأخرجها فيصل الياسري للمسرح الجامعي في سوريا عام 1974. في ثاني عروضها، فوجئ فريق العمل بمجموعة من الجنود تحرس المسرح جرّاء «تهديدات من بعض المتطرفين بحرق المسرح إذا لم يتوقف العمل»، وبالفعل، صدر قرار بإيقاف عرض المسرحية في يومها الرابع.
ولأنّ عدوان كان مُفكراً من طراز استثنائي، فقد خلّف حتّى في حواراته نوعاً من التنظير الدقيق. لا بأس في هذا السياق من التذكير بأحد توصيفاته للواقع الفكري السوري: «المعارض اليساري كانت بيده أسلحة قمعية أكثر من السلطة. فقد وضع هؤلاء معايير نقدية لا تصلح إلا للمسلخ، وسلخوا تاريخاً من الحياة الثقافية. ولذلك، كانت معركتنا معهم أشد ضراوة لأن المعارِض يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة الكاملة، بمقدار ما يملكها رجل السلطة، بفارق أن رجل السلطة ـ ولأنه يفعل فعلاً يومياً على الأرض ـ يرى أن هناك مبرراً للحوار معه ولنقده، ولو نقداً خفيفاً. أما الأول ـ ولأنه لا يفعل شيئاً إلا التنظير ـ فإنه يعتقد بأن الحقيقة لديه كاملة ولذلك تأتي أحكامه أكثر صرامة وأشد قسوة». أفلا ينطبق هذا بحرفيته على الراهن السوري؟ وربّما العربي بشكل عام؟
ولعلّ من أشدّ المحطات المثيرة للإعجاب في مسيرة عدوان، المداخلة الناريّة التي أدلى بها عام 1979 خلال اجتماع موسع لأعضاء اتحاد الكتاب العرب مع قيادات «الجبهة الوطنية التقدميّة» التي كانت إحدى أهم أدوات السلطة السورية في ذلك الوقت. يومها، وقبل ولادة جيل سوري كامل، وفي عزّ هيمنة الحكم الشمولي لسوريا، قدّم عدوان مطالعةً عن أسباب التطرّف، حمّل فيها السلطات قدراً كبيراً من المسؤولية. وكان من أبرز ما قاله حينها «من ضمن الأسباب الداعية لاجتماعنا هذا، هو إحساس الجبهة الوطنية بأنها بعيدة قليلاً عن الناس. والجبهة الوطنية جزء من هذا النظام، الذي يحس أيضاً بأنه بعيد عن الناس. بُعد هذا الشارع السياسي السوري عن السلطات السورية المتتالية سببه تاريخ من وقوع هذا الشعب ضحية لكذب الأنظمة. الأنظمة السياسية كذابة، لذلك لا يصدّقها. لا يصدّق بياناً عن معركة، بخصوص عدد الشهداء، ولا يصدّق حتى درجات الحرارة القصوى والصغرى! (...) أنا أعمل في إعلام يكذب حتى في درجات الحرارة وأخبار الكوليرا».
«أريدُ أبي حيّاً». لا تزال أصداء تلك الجملة تتردّد مُذ قالتها اليمامةُ في مسلسل "الزير سالم" قبل سنوات طويلة. أما جملة «إنك لن تجدع بحرب بني قومك إلا أنفك، ولن تقطع إلا كفك» المأخوذة من المسلسل نفسه، فلا يكاد يتذكرها أحد. ورغم أن المسلسل الشهير كان يُقدم سيرة الزير سالم، غيرَ أنّهما التبسا منذ عام 2000، حتى ليكادُ الذهن يعجز عن تخيّل الزير على غير صورة الفنان سلوم حدّاد (جسّد الشخصية)، ويعجز عن تصوّر سياقات لها تخالفُ ما كتبه عدوان. الأخير لم يكتفِ بلعب دور السارد، بل تعدّاه إلى محاولة إعادة إنتاج السيرة برؤيوية إبداعية تترك للمتلقي أن يستنبطَ من دون أن تعِظه. هو الذي قال مرّة إن «الذين انتقدوا تهديم صورة البطل الشعبي (الزير سالم) كثر، وأنا هدمت هذه الصورة عن قصد، وأشعر بالسعادة لأنني فعلت ذلك». في مقابل هذا الفعل، عمد عدوان الى تعظيم صورة الحارث بن عباد، الذي كان رافضاً للحرب على امتداد الحدث، وحتّى حين دخلها فقد فعل ذلك بوصفه حلّاً أخيراً لإنهائها (جسّدها المبدع الراحل خالد تاجا). اليوم بعد مرور سنوات عشر على رحيل عدوان، نفتش عن ابن عباد واحد في «حرب البسوس السورية»، فلا نرى إلا نُسخاً من المهلهل المتعطّش للثأر، المتشدّق بـ« صحيح أن المزيد من القتل لن يعيد أباك ولكن لا سلو لنا عنه إلا بالمزيد من القتل»، والمُعرض عن سماع شيء سوى «أريدُ أبي حيّاً».
«أريدُ أبي حيّاً»... كأنّ أحداً منّا نحن السوريين لم يخطر في باله أنه ربما كان طبيعياً أن تقولها اليمامة، وأنّ حمقى تغلب وبني شيبان جاؤوها بدلاً من ذلك بألوف الآباء القتلى.