أياً كانت الزلاّت والبيانات والاعتذارات، لا يمكن لزيارة سعد الحريري إلى وطنه الأول لبنان أن تطغى على زيارة أخرى في مكان بعيد عن لبنان. وأياً كانت شفهية الدعابات التي تخللت خطاب زعيم المستقبل أو خطّيتها، لا يمكن لكلامه أن يتقدم على كلام آخر قيل في مكان أبعد، يبدو أقرب في الروح والهاجس والهم ّوالاهتمام والالتزام بلبنان.
قبل يومين من حديث الحريري في بيروت، كان حديث آخر للبابا فرنسيس والبطريرك كيريل من هافانا في كوبا. قيل الكثير عن تاريخية اللقاء. كما عن سياقه الكنسي واللاهوتي. لكن يبقى قول أكثر عن مستقبليته، كما عن واقعه السياسي والعملي. خصوصاً في ما يتعلق بلبنان ومحيطه ومنطقته.
في البيان الكنسي الذي وصف بأنه انتظار ألف عام لا غير، ثمة فقرات مباشرة تعنينا وتعني شعوبنا وأوطاننا. يتحدث الرجلان بمكاشفة كاملة، عن "مناطق العالم حيث يعاني المسيحيون من الاضطهاد. يُقتل أخواننا وأخواتنا في المسيح، في عدد كبير من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أسراً أسراً وبلدات بلدات. تُدمر كنائسهم وتتعرض للنهب البربري كما وتُدنس مقدساتهم وتُدمر مبانيهم. ونشاهد، بألم شديد، هجرة المسيحيين الجماعية من العراق وسوريا وبلدان أخرى من الشرق الأوسط وهي الأرض التي انطلق منها ايماننا وحيث عاشوا منذ أيام الرسل جنباً الى جنب مع الجماعات الدينية الأخرى". ويدعو الأسقفان "المجتمع الدولي الى اتخاذ اجراءات طارئة من أجل تفادي استمرار طرد المسيحيين من الشرق الأوسط". ثم يربط الحبران هذا الكلام مباشرة بما يحصل في سوريا والعراق. وإذ يرفضان العنف والإرهاب، ويدعوان إلى حوار يرسي السلم الأهلي، لا ينسيان، من كوبا، مطرانين مخطوفين في حلب، نسيهما كثيرون من كنائسهما وإخوتهما في الإيمان والمعاناة. لكن الأهم أن رئيسي الكنيستين الكبريين في العالم، ربطا كلامهما عما يجري عندنا، بقلق كبير وتحذير خطير. إذ حرصا على حث "جميع المسيحيين وكل المؤمنين باللّه، الى الصلاة بورع للّه خالق العالم والقادر على كل شيء، لكي يحمي خليقته من الدمار ولا يسمح بحرب عالمية جديدة".
أحد المسؤولين الكنسيين اللذين ساهما في كتابة البيان التاريخي، تحدث في اليوم التالي لصدوره، عن جدية تلك الإشارة، كما عن حرفية القلق حيال حرب على مستوى كوكبنا. المتروبوليت هيلاريون ألفييف، رئيس قسم العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو، كان ممثل كنيسته في لجنة صياغة البيان، إلى جانب الكاردينال كورت كوخ، رئيس المجلس الحبري لتعزيز الوحدة بين المسيحيين، من قبل الفاتيكان. هيلاريون الذي زار لبنان وسوريا أكثر من مرة، والذي يتابع ملف البلدين والمنطقة بين كنيسته وسلطات موسكو الحكومية، شرح لاحقاً كلام الحبرين عن "حرب عالمية". فقال بصراحة إن "ما جاء في الإعلان التاريخي هو انعكاس دقيق للأحداث الأخيرة الواقعة في سوريا". مشيراً إلى "تصريحات خطيرة كانت تصدر في الأيام الأخيرة من مختلف المجالات حول وضع استعداد مختلف البلدان للمشاركة في عملية برية في ذلك البلد"، ومضيفاً أن صاحبي الإعلان قلقان بعمق من أن "تواجه التحالفات المناهضة للإرهاب خطر الدخول في مواجهات مباشرة، الواحدة ضد الأخرى. ماذا يعني بداية أعمال عسكرية واسعة، لا تُوجَّه ضد الإرهابيين، بل ضد بعضها البعض. من هنا، خطوة واحدة فقط تفصلنا عن حرب عالمية ثالثة".
الحرب الشاملة التي يتم التحذير منها، مسرحها على حدود لبنان. لا بل قد يكون جزء كبير منها على أرضه وفي قلب ناسه وجماعاته. ليست المسألة أن خطراً عسكرياً يتهدد هذا البلد وحسب. بل أيضاً أن مجمل احتمالات الصراع الناشب في سوريا يتهدد وجوده كوطن ودولة مستقلة. الذين يتابعون حركة السياسة الدولية حيال التطورات السورية، يؤكدون أن أزمة النازحين إلى لبنان، ستكون أزمة لبنانية مزمنة أو حتى دائمة. وببركة دولية تلبس لبوس التجاهل الأممي الكامل. قبل أسبوعين في لندن، كان البحث في استيعاب مليون نازح عندنا، في التوظيف والتعليم. مليون نازح باتت ولاداتهم تشكل مأساة إنسانية لهم أولاً، فضلاً عن كونها باتت تفوق ولادات اللبنانيين على أرضهم بنسبة سبعين بالمئة. وقبل يومين في ميونيخ، كان الحديث الدولي صراحة، عن وقف الأعمال الحربية في سوريا، وضخ المساعدات الإنسانية للنازحين منها. أي لا حرب، ولا عودة. فماذا يبقى لهؤلاء البؤساء، كما للمجتمعات التي تحتضنهم؟
خطاب سعد الحريري بدا وكأنه لم يعرف ببيان كوبا. أو لم يعترف به. ولأكثر من سبب وخلفية. فهو تعمد أن يخسر آخر حلفائه المسيحيين. كأنه يتعمد تجاهل كل شركائه منهم في الوطن. وهو سها عن مقتضى الميثاق في بناء الدولة وتكوين مؤسساتها. حتى خلط بين "النظام" و"الطائف". وهو لم ينتبه إلى أن كنيسة كيريل انبثقت من اندثار من سأل يوماً بعد نهاية حرب عالمية سابقة، عن عدد دبابات الفاتيكان. والأهم، أنه لم يعط الجواب على سؤاله هو: ماذا لو كان رفيق الحريري حياً اليوم، هل كان ليفعل كل ذلك؟!