عيسى مخلوف*سعيد عقل ليس شاعراً واحداً.
يقشعرّ جسمي فرحاً وغبطة عندما أسمعه يقول (بصوت فيروز، طبعاً): "مُرخىً على الشعر شالْ/ لرندلى/ هلا هلا/ به بها بالجمالْ". أو "طالتْ نَوىً وبَكى من شوقِهِ الوترُ/ خُذني بعينيكَ واهرُبْ أيّها القمرُ"، ويقشعرّ جسمي خوفاً، بل وأتحسّس عنقي عندما تلمع سيوفه حين يردد: "ستَكبرُ إن تُهزم لأنكَ في غدٍ ستَرجِعُ رُجعى السّيفِ طَيَّبه السَّنُّ"، أو "يسوع أرضكُ أرضي خُطَّ موعدها/ تجدني السيف إن خانوه لم يخُن"...

سعيد عقل هو هذه الازدواجيّة بالذات، يوحّدها صنيعه الشعري الفذّ وهندسته المتماسكة. تتلألأ اللغة العربية بين يديه كما تلألأت مع كبار الشعراء العرب الكلاسيكيين، وهو جدَّدَ ضمن الشعر الكلاسيكي نفسه، وقد غرفَ من تقنيّاته وترتيباته اللغويّة وتصاويره بعضُ الشعراء الروّاد والمحدثين. لكنّ هذا الشعر المتلألئ إنما يتلألأ فقط ضمن ظاهره المتجلّي ومقدرته الكبيرة على الإغواء، ولا يغوص في الأسئلة الجوهرية، الوجودية والجمالية، التي بدأ يطرحها الشعر في الغرب منذ القرن التاسع عشر. وشاعر "قدموس" يختصر، أصلاً، تعريفه للشعر على النحو الآتي: "قَبضٌ على الدنيا، مشعشعةً كما وراء قميصٍ شعشعَت نُجُمُ".
أمّا عن موقفه السياسي والثقافي بصورة عامّة – وكان هوَ أحد وجوه الانقسام السياسي في الحرب الأهليّة – فلا يمكن أن ينسحب على جماليته الشعرية، وإلّا كنّا حكمنا على النتاج الأدبي للويس أراغون ولويس فردينان سيلين وسان جون بيرس وخورخي لويس بورخس وغيرهم، من خلال مواقفهم السياسية والأخلاقية. في هذا السياق، لا يعود ثمّة معنى لمقولة الكاتب والمفكّر النمسوي كارل كراوس: "تبقى القصيدة جميلة حتى نتعرّف إلى شاعرها".
لكن ما يمكن قوله، في هذا المجال، أنّ سعيد عقل، برؤيته الهذيانيّة للبنان، وتأليهه للذات، ورفضه الآخر المختلف، إنّما يقف على الطرَف النقيض من تلك الكوكبة من الأدباء الإصلاحيين الذين جاؤوا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكانوا أصحاب نزعة إنسانية، نادوا بالحرّية والمساواة، وانتفضوا ضدّ الظلم والاستبداد، ولم ينغلقوا داخل طائفتهم، ولم يُعادوا محيطهم الثقافي والحضاري العامّ، بل سعوا إلى تبديل الواقعَين السياسي والاجتماعي، ورسموا الخطوط الأولى للمسيرة العلمانية... كم تبقى ناقصة هذه الكلمة المقتضَبة حول شاعر كبير يحتاج نتاجه إلى دراسات معمّقة لم تُكتَب بعد.

* شاعر لبناني