مختبرات مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية اليوم مكتظة بالعاملين، براداتها مليئة بآلاف العينات التي يُنتظر فحصها. العمل لا يتوقف حتّى أيام العطل، فالمسؤولية كبيرة والفساد الغذائي أصبح هاجس اللبنانيين. يتوزّع الموظفون على غرف المختبر، ليس هناك مجال لإضاعة الوقت، فالعينات التي تصل يومياً تفوق القدرة الاستيعابية، وبالتالي على العمل أن يبقى متواصلاً.
يعلم هؤلاء منذ زمن بعيد حجم الفساد الغذائي المستشري في البلد، الأمر ليس جديداً عليهم، نحن –المواطنين العاديين- فقط «فوجئنا» بالنتائج. يقول المدير العام للمصلحة ميشال افرام «هذه النتائج كنّا نعلنها سنوياً عبر تقرير نرسله إلى جميع الوزراء والنواب، لكنها لم تأخذ هذا الاهتمام، لأنه لم يكن هناك غطاء سياسي».
ما الذي لا يحظى بالاهتمام؟ اي مخاطر تهدد صحّة اللبنانيين ويجري اهمالها؟
كشف افرام لـ»الاخبار» ان عينات جديدة من الدجاج في السوق اظهرت وجود بكتيريا campylobacter. هذه البكتيريا الخطيرة منتشرة في المزارع ولها عوارض شبيهة بالسالمونيلا ولكنها أقوى، إذ تؤدي إلى التهاب في الدماغ وشلل الأطفال (والالتهابات الدموية والإسهال والتهاب اللثة ايضا). سيعلن وزيرا الصحة والزراعة قريباً وجود هذه البكتيريا وآلية مكافحتها. وقال افرام في حديث مع «الاخبار» ان الوزارتين بدأتا بإجراء مسح شامل لجميع مزارع الدجاج كي تبدأ التنظيف من المصدر، وذلك وفق الاستراتيجية التي اتبعها الوزير وائل ابو فاعور اخيراً.
المعروف ان البكتيريا الملتوية Campylobacter تنتقل بطرق عدة، منها تناول الدجاج غير المطهو على نحو جيد (نصف نيء) او من خلال اختلاط الدجاج النيء المصاب بالعدوى باطعمة اخرى. وتكمن خطورة هذا المرض في انه قادر على العيش في جسم الدجاجة دون ان يظهر عليها المرض او الوهن. وتمثل حوصلة الدجاج وكبدها (السودا) الامكنة الامثل لاستيطان البكتيريا.
سيكتشف اللبنانيون أنّ
كميات كبيرة من القهوة
غير مطابقة للمواصفات

تظهر أعراض انتقال العدوى عادة خلال 5-7 أيام. ويعد انتقال هذا المرض من الحيوانات الى الانسان امراً شائعاً، ليس فقط عن طريق تناول اللحوم، بل ايضاً عن طريق لمس براز الحيوانات المصابة مثل الكلاب والقطط. ويمكن لكمية قليلة جداً من هذه البكتيريا (اقل من 500 خلية) ان تجعل الانسان مصابا، وهذا يعني ان كمية قليلة من عصارة لحم الدجاج النيء كافية لاصابة الانسان بالعدوى. ولذلك تكون الطريقة الاكثر شيوعاً للاصابة هي باستخدام المكان نفسه لتقطيع الدجاج النيء ومن ثم تقطيع الخضر او غيرها من الاطعمة النيئة او القليلة الطهو، كما تنتقل العدوى بين دجاجة واخرى عن طريق شرب الماء، كما تنتقل من الامعاء الى اللحم بعد الذبح، وتنتقل العدوى ايضا الى الحليب غير المبستر إذا التقطت البقرة العدوى عن طريق الضرع، أو إذا جرى تلويث الحليب بالسماد.
اكّد افرام ان الحملة مستمرة، وهي في طور التوسّع، إذ ستطاول قريباً القهوة التي سيكتشف اللبنانيون أنّ جزءاً كبيراً منها غير مطابق للمواصفات. كذلك كشف افرام ان ملفا آخر فُتح منذ أيام قليلة يتعلّق بالمضادات الحيوية والهرمونات، وقد بدأت التحاليل تُجرى نهار الجمعة الفائت. وقال افرام أنّ «هناك مضادات حيوية تُعطى للحيوان للحد من الأمراض التي يمكن أن تصيبه، وهناك هرمونات تُستخدم لتسريع نمو الحيوان، هذه المضادات الحيوية والهرمونات إذا بقيت ترسبات منها في الأكل، فإنها تضر بصحة الإنسان».

لا يقتصر عمل المصلحة على العينات التي تأتيها من الوزارات، بل تدخل ضمن مهماتها عملية الكشف على البضائع المستوردة والمصدرة، وهنا الفضيحة الكبرى. تخضع البضاعة التي يراد تصديرها من لبنان إلى الدول الأوروبية لفحوص في مختبرات المصلحة، لأن هذه الدول لا تقبل سوى إفادة صحية منها. يكشف افرام أنه «إذا أتت نتائج الفحوص سلبية، فهذا يعني أنها غير صالحة للتصدير لأنها فاسدة، لكن ما يحصل هو أنه ما من قانون يمنع استهلاكها محلياً، وبالتالي يحوّلها التجار إلى السوق اللبنانية». هكذا إذاً، ما لا يأكله المواطن الأوروبي يأكله المواطن اللبناني! أما على صعيد الاستيراد، فيؤكد افرام أن «كل ما يدخل إلى لبنان بالطرق القانونية، يخضع لكافة الفحوص، ولا يمكن أن يدخل إلى البلد إذا كان فاسداً»، لكن بعد اجتيازه الفحوص، إذا نُقل بطريقة خاطئة، أو وضع في مستودعات وسخة ... فهو بالتأكيد سيفسد، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس هناك بضائع فاسدة تدخل بالطرق غير الشرعية. يقسم افرام اللحم المستورد إلى قسمين: المبرّد الذي يصلح لـ 60 يوماً فقط، وبعد ذلك يجب تلافه، والمثلج، الذي يصلح لـ6 اشهر. المشكلة هي أنه «عندما يتجاوز اللحم المبرد مهلة الـ 60 يوما يعمد التجار إلى تثليجه، وهذا خطأ لأنه أصبح فاسدا». يردّ افرام على المشككين في النتائج فيقول «إن أي عينة تأتي نتيجتها سلبية تخضع تلقائياً لإعادة فحص للتأكد منها»، أما عن سبب اللجوء إلى مختبر الجامعة الأميركية، فيلفت إلى أنه «في ذلك اليوم وصلت إلينا 1100 عينة وهو عدد هائل، لذلك حُوّلت 100 عينة فقط إلى الجامعة».
لم تعد مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية اسماً مجهولاً، بل باتت اليوم من أشهر مؤسسات الدولة، لا تنافسها سوى وزارة الصحة التي فتحت، عبر ملف سلامة الغذاء، أبوابا الى الدولة «المحتملة». قد تكون إحدى إيجابيات حملة الوزير أبو فاعور- غير الحفاظ على سلامة الغذاء وضرب منظومة الفساد الغذائي- هي أنّ هناك معادلة جديدة تتبلور، إذا أكملت الحملة بفعالية، مفادها بأنّ الدولة قابلة للوجود، وبأن القطاع الخاص اكثر فسادا منها، وان هناك مؤسسات رسمية لو تُركت تؤدي واجباتها، فستخدم مصلحة المواطن بطريقة ما.