أهمية كتاب «نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط» أنّ ما ورد فيه من تحليلات ينطبق على ما يجري في العالم العربي، خصوصاً هيمنة المقاربات التي تعتبر أنّ الأديان والطوائف وتصرفات المنتمين إليها هي العوامل الرئيسة في الصراعات الدائرة، وتغض الطرف عن العوامل السياسية والاقتصادية وراء النزاعات الطائفية الدموية في المنطقة، وبالتالي تشجع استمرار الإرهاب الطائفي.
يدعو قرم في مقدمة الطبعة العربية لكتابه الى «الخروج من القوقعة النفسية المبنية على العصبيات الدينية والمذهبية والمناطقية والعشائرية التي تشجعها القوى الدولية وبعض القوى الاقليمية في صراعها للهيمنة على المنطقة». ويعتبر قرم أنّ استمرار اسرائيل في محاولة استعباد الشعب الفلسطيني، صاحب الارض، من دون أن تكون موضع عقوبات على شاكلة ما خضعت لها في الماضي افريقيا الجنوبية في زمن العنصرية، مرتبط ببيئة إعلامية وأكاديمية واقعة تحت تأثير الايديولوجيات الطائفية والاثنية في المنطقة والعالم. في كل صراع إقليمي أو دولي، يتم اختيار ضحية تكفيرية لمعاقبتها باسم «المجتمع الدولي» وفق المصالح الجيوسياسية، فيما يجري تطبيق انتقائي للقانون الدولي وتنفذ سياسات الكيل بمكيالين وتنتشر التحليلات الايديولوجية التافهة التي تعتمد أحادية أسباب النزاعات وتقسيم أطراف النزاع بين «أحرار» و»أشرار» ويتزايد معها ما يسميه «التعصب الحضاري».
ويشير إلى أنّ هذه الفوضى وهذا التشوش المنتشرين في عقول السياسيين والمحلّلين أديا الى التحدث عن حرب «باردة» وحرب «ساخنة» وصراع «وقائي» وصراع «هجومي» ولم نعد نتحدث عن أعمال مقاومة مشروعة للاحتلال، بل عن «إرهاب» يمارسه الخصوم. وهكذا وصفت أعمال حركتي المقاومة للاحتلال الاسرائيلي أي «حماس» و«حزب الله» بالمنظمات التي تمارس الأعمال «الارهابية». كما أنّ المصطلحات الواضحة والدقيقة لتعابير مثل «الامبريالية» أو «الاستعمار» لوصف السبب المادي لبعض الصراعات قد اختفت تماماً من الخطابات والتحليلات الخاصة بنشأة هذه الصراعات. يدعو قرم إلى تجدد شعلة الديمقراطية في الأنظمة الديمقراطية العالمية الكبرى لوضع حد للمغامرات العسكرية الخارجية التي تقوم بها حكوماتها باسم الديمقراطية وقيمها. كما يُندّد بتجنب بعض حكام بلدان الشرق الاوسط معالجة مشاكل بلدانهم السياسية والاقتصادية عبر ارسال محاربين من هذه البلدان سمّتهم «جهاديين» ليقاتلوا في بلدان أخرى كأفغانستان والبوسنة وكوسوفو والصومال وحالياً في العراق وسوريا ولبنان وليبيا.
ويفسر الاسباب الاقتصادية وراء صراعات الشرق الأوسط بارتباطها بوجود النفط والغاز في هذه المنطقة. كما يقول إن تزايد العداء الدولي تجاه الصين يعود الى الخوف من استيلاء هذا العملاق الديمغرافي والاقتصادي وحلفائه على الموارد الطبيعية المتوافرة في الشرق الأوسط. ويهاجم خريطة المستوطنات الاسرائيلية المتزايدة في الأراضي الفلسطينية، قائلاً بأنّ هذا التزايد يجري أمام عيون العالم، ما يجعل ولادة الدولة الفلسطينية شبه استحالة جغرافية.
ويتحدث عن عودة الى المواقف المتشددة في الأديان ومواقف لا تقبل التفكير النقدي، ويتم استثمار هذه المواقف من قبل السياسيين. وهذه الأزمة (كما يسميها) هي سياسية بامتياز وليست بالفعل عودة الى الدين بل «اللجوء الى الدين» لأهداف سياسية. وهذا أمر منتشر في العالم وليس فقط في الشرق الأوسط وفق قرم. وينتقد تدريب الولايات المتحدة للحركات الأصولية الاسلامية التابعة لمشاريع دول في المنطقة على القتال وتزويدها بالسلاح والتمويل لممارسة «الجهاد ضد الكفار» في وقت يتم إحياء المسيحية بشكلها المتشدّد المتعصب في أميركا (المسيحيون المولودون مجدداً) لمناهضة ما سُمّي «محور الشر» الذي يتشكل بمجمله من دول وشعوب إسلامية. وهكذا يتم تقسيم العالم إيديولوجياً عبر استخدام العنصر الديني كأداة لكلّ أشكال الاستبداد الحديث بحسب قرم. وأحياناً، تستخدم هذه الجهات «الامم المتحدة» أو «حلف الناتو» أو المحاكم الدولية أو تخلق تحالفات بين حكومات في العالم نصيرة لسياسة الولايات المتحدة لشن حروب جديدة في المنطقة تدعي الأخلاقية بينما هدفها هو عكس ذلك.
ويأسف قرم على ما جرى من استبدال القومية العربية بإيديولوجيات أصولية ذات صبغة راديكالية تحت إشراف بعض الدول العربية المرتبطة بالأنظمة الغربية حوّلت الصراع مع اسرائيل الى صراعات اسلامية-اسلامية. وينبّه في خاتمة كتابه إلى أنّ هذه السياسات المنتشرة حالياً في العالم قد تؤذن بنشوب حرب عالمية ثالثة. ويعتقد قرم أنّ العالم الغربي يرحب بالجهات الدينية التي اختطفت الثورات العربية المندلعة منذ 2011، وأن الولايات المتحدة وبعض حلفائها في المنطقة يدعمون إخفاق هذه الثورات، كما نجحوا سابقاً في دحر موجة القومية العربية المعادية للامبريالية ولاسرائيل من الستينيات الى الثمانينيات.