تتكدّس الفانات على طريق عكار ـــ طرابلس بالجنود. بعض سائقي حافلات الركّاب الصغيرة حفظوا جدول مأذونيات بعض العسكريين، يحجزون لهم المقاعد، ينتظرونهم عند مفارق القرى، يعرفون أسماءهم لكنهم يصرّون على «وطن». «إذا كان الفان مكتظاً، اجلسي بجانب جَيشي»، توصي الوالدات بناتهنّ المتنقّلات بالحافلات بين المدينة وريفها.
جلست المرأة الخمسينية بين عسكريَّين في الفان الذي انطلق ظهر أمس من حلبا باتجاه طرابلس. وعلى الطريق صعد عسكريان آخرين، أحدهما بلباس مدني «للاحتياط... ما حدا بيعرف شو بيصير». كبتت الأمّ المتوجهة إلى بيروت لزيارة أولادها سؤالاً عن «الأوضاع في عرسال»، فلماذا تذكّر الجنود الشباب بمأساتهم؟ لزمت الصمت ودعت لهم همساً «الله يحميكم».
لا يُكثر العسكريون من الكلام في الحافلات مهما تعاظمت النقاشات وتنقّلت الأخبار و»التحليلات» بين الركّاب. في فان يوم أمس، حديث واحد: تشييع الجندي من بلدة القبيات وقتيل البدّاوي الذي أصيب في تبادل إطلاق نار مع الجيش. يهزّ العسكريون الأربعة رؤوسهم أسفاً على زملائهم الذين «يُصطادون» غدراً على طريق المأذونيات. ثم تشخص عيون الجميع على الطريق المزدحم. يصل الركّاب إلى مشارف طرابلس. «العوافي حبيبنا»، يمرّ الفان على حاجز دير عمار. بعد أقلّ من كيلومتر، أي عند مدخل منطقة البدّاوي، يتوقف الفان فجأة. في وسط الطريق عند محطة تكرير النفط (IPC)، تتمهّل حافلتان، يُخرج نحو عشرة مسلّحين غير ملثّمين أسلحة من النوافذ ويطلقون رصاصاً كثيفاً في الهواء. يتوقف السير، تعلو الهتافات على الأرصفة، ينهال الرصاص من كل الجوانب. بعض الفانات تنعطف وتعود أدراجها. تصرخ المرأة بالسائق: «رجعنا من محل ما جينا!». سائق الفان لا يريد العودة بعد أن قطع أكثر من نصف المسافة، لكنه التفت إلى ركّابه العسكريين وقال لهم: «انزلوا الآن... اهربوا!!». ثم اقترح أحد الركّاب: «اخلعوا بزّاتكم!». فيجيب أحد الجنود: «لن نفعل، يمكنك أن تكمل الطريق». رفض السائق الامتثال فهو يخشى على مصدر رزقه أيضاً: «ماذا لو أطلقوا النار على الفان؟». يعلو صوت الرصاص، تصرخ المرأة متوسّلة. وقف الجنود محتارين. «اهربوا الآن. عودوا إلى نقطة الجيش في الخلف. أسرعوا»، كرر السائق. فُتح الباب، نزل العسكريون مهرولين. وضعت المرأة رأسها بين يديها وأجهشت بالبكاء. هو خجل مميت أضيف إلى الخوف هذه المرة. التفتت لحظة إلى الوراء لتطمئنّ، فشاهدت ما لم تشاهده خلال كل الحروب التي عاشتها في البلد. جنود من الجيش اللبناني يفرّون مرغَمين هرباً من رصاص «أهلي»، على وقع هتافات معادية. تسلك الحافلة طريقاً فرعية، السائق غاضب، «انظروا ماذا يفعل الزعران بنا. بالبلدة وبأبنائها» يقول أحد الركّاب. الدبابات مستنفرة عند دوّار أبو علي والجنود متأهبون عند أحد المراكز على مدخل الزاهرية. تمرّ حافلتا المسلّحين على مستديرة «أبو علي»، ثم أمام نقطة للجيش في الزاهرية، البنادق مرفوعة خارج النوافذ، والرصاص لا يهدأ. آليات الجيش لا تتحرك والجنود مسمّرون.
يصل الركّاب إلى ساحة التلّ، يغادرون بصمت واستعجال. يصل المسلّحون أيضاً إلى المكان. صوت الطلقات يصدح في الساحة المكتظة. قرب مواقف الفانات حيث يتجمّع العسكريون الركّاب يتكرر المشهد. يُهرول أصحاب البذلات المرقّطة مسرعين للتواري داخل المحالّ!
«لم أتخيّل يوماً أن أرى الجنود في مثل هذه الحالة. وحدها رصاصة في القلب قد تمحي شعور الذلّ الذي أصابني اليوم»، قالت السيدة العكّارية بغصّة.