مشهد أول: يروي الكاتب والمفكر السياسي، أنطوان نجم، أنه مطلع الثمانينات، ولأسباب سياسية داخلية وإقليمية مركّبة ومعقّدة، تقاطعت حسابات ثلاث قوى مختلفة متناقضة، على ضرورة أن تتحاور في ما بينها. من جهة أولى القوات اللبنانية يومها، بقيادة بشير الجميل. ومن جهة ثانية، الحركة الوطنية مع أبرز رموزها وليد جنبلاط. وبينهما ما تبقى في حينه من هيكل دولة لبنانية، يمثلها الياس سركيس. وكانت تلك الأطراف الثلاثة، يومها، على رؤوس أضلع متقابلة، من مثلث متصارع كلياً. فبشير الجميل كان في نزاع خفي حيناً وعلني أحياناً مع دولة الياس سركيس. صحيح أنه كان قد تخطى مرحلة تسميته "بابراك كارمل" لبنان. لكنه لم يكن قد بلغ حدّ التحالف الموضوعي ثم الفعلي معه، الذي وصله عشية الاجتياح الاسرائيلي. وكان بشير طبعاً على صراع مع جنبلاط. فيما الأخير يخوض حرباً معلنة ضد كل ما يمثله بشير. وتعتمل في نفسه حرب أخرى كامنة ضد السياق الإقليمي الذي جاء بسركيس رئيساً، ليأخذ بوالده شهيداً. أما رئيس الجمهورية اللبنانية يومها، فكان لا يزال يعيش ذهنياً على الأقل، في مرحلة أنه جاء حاملاً مشروع حل للحرب، وأن الميليشيات وأمراء الحرب هم من أجهضه، قبل الخارج الذي جاء به موحداً، إلى أن أن انفجرت تناقضات حساباته بعد زيارة السادات إلى اسرائيل.
المهم، أنه رغم تضاد الثلاثة، اتفقوا على الحوار. فحددوا مكانه والزمان. وحدد كل منهم ممثله إليه. يقول نجم، إنه لحظة اللقاء، كانت المفاجأة. فرغم أن المتحاورين من جهات ثلاث متصارعة، ورغم أنهم مختلفون على كل شيء تقريباً، لكن ما جمع بينهم، كان الماروني. فممثل بشير الجميل كان مارونياً هو أنطوان نجم. وممثل سركيس كان مارونياً آخر هو جوني عبدو. فيما ممثل وليد جنبلاط نفسه كان مارونياً ثالثاً، لم يكن غير سمير فرنجيه. أي مفارقة هذه، أن يكون الماروني هو الجامع ــــ أو القاسم ــــ المشترك، بين ثلاث قوى متصارعة، في لبنان واحد، قيل إنه أوجد بسبب الموارنة، لا من أجلهم قطعاً؟! إشكالية أولى ظلت منذ ما قبل تلك الحادثة حتى ما بعدها، بلا جواب شاف ولا بحث كاف...
مشهد ثان: مرت الأيام. سقط بشير، ورحل سركيس. وعبر جنبلاط أكثر من صحراء قاسية. حتى جاء رفيق الحريري. حكم الرجل لبنان نحو عشرة أعوام، في حماية مظلة إقليمية دولية أمنت لبللاد معادلة دقيقة عنوانها بعض الاستقرار مقابل شيء من الاستقلال. ونجح خليفة عبد الناصر وأبو عمار في وجدان الشارع السني اللبناني، في حماية تلك المعادلة بموازين صيدلانية أكثر دقة من ميزان ذهبه. حتى تبدلت الأمور في الخارج بعد احتلال العراق وتباين حسابات واشنطن والرياض ودمشق. فأحس الحريري بتفسخ الأرض التي يقف عليها. ذات يوم من مطلع العام 2005، وسط استشعاره بالإعصار الآتي عليه وعلى البلد، ذهب الحريري إلى حسن نصرالله. كان يدرك أنه والسيد هما الثابتتان وسط الزلزال الآتي. وأن أي اتفاق بينهما يمكن أن يصمد بعد ارتدادات الهزات الخارجية. تحدث الحريري إلى نصرالله عن كل شيء. من الديمغرافيا إلى الجغرافيا. ومن المال إلى المقاومة. حتى طرح على السيد سلة مشروعه. حتى رئاسة المجلس النيابي أريدها لحزب الله. قال الحريري. يروي النائب حسن فضل الله في كتابه الأخير أن الحريري اقترح محمد فنيش لمنصب "عطوفة الرئيس" المقبل. ابتسم السيد. فاعتقد الحريري أن لديه ملاحظات حول الاسم. قال: فليكن رئيس كتلتكم الحاج محمد رعد. ابتسم السيد ثانية. عندها ذهب أبو بهاء أبعد. قال للسيد: ثمة نائب من كتلة الحزب هو الأبعد عنا والأشرس في معارضتي. أقصد الحاج علي عمار. وأنا أقبل به رئيساً للمجلس. عندها استوى السيد في مقعده، وراح يشرح للحريري كيف أن المسألة بالنسبة إليه، كما لحزبه، ليست مسألة منصب ولا حصة ولا كوتا ولا اسم. بل هي مسألة مبادئ تحكم مقاربته للسياسة والشأن العام. وأولى تلك المبادئ أن السياسة أخلاق والتزام. ثم تابع شرحه كيف أن هذا الالتزام وتلك الأخلاق تفرض على السيد، كما على حزبه، التمسك بنبيه بري لا سواه، رئيساً للمجلس النيابي.
الأهم في تلك الرواية، بمعزل عن القراءات المختلفة لما قبلها وما بعدها، أن الحريري كان يومها يفاوض زعيماً للسنة. وكان الآخرون غائبين. لكنهم كانوا حاضرين في حساباته لخيرهم العام في سياق مصلحة الوطن. كانوا كلهم واحداً. وكان الرئيس بري غائباً عن الجلسة. لكنه كان حاضراً في أخلاق السيد والتزامه مقتضيات الميثاق الوطني، داخل جماعته، كما بين جماعات الوطن. فكان الشيعة واحداً أيضاً.
في مشهد ثالث، وبعد ربع قرن من الصراع الدموي، اتفق المسيحيون على موقف. وجسّدوه بتأييد ترشيح رئيس للجمهورية. أمس خرج سامي الجميل مستاء غاضباً لأن نواباً ممدداً لهم، لم ينتخبوا أي رئيس كان!
في عيد مار مارون، تستحق المشاهد الثلاثة أكثر من قراءة وتمعن، لمحاولة كنه حقيقة مشكلة تلك الجماعة وعمق عطبها الوجداني. إلا إذا كان السبب لوثة الحرية التي في نسغها. وإلا إذا كان ذلك دليل حيوية ودينامية ومؤشر صحة وعافية. في كل الأحوال، يظل المعزّي في المشهد وفي العيد، أن الناسك مارون عاش ومات ولم يعرف أنه مؤسس جماعة أو رئيس طائفة. وهذا ما جعله قديساً... على الأرجح!