غزة | لم تكن طبيعة اندهاش العدوّ من المقاومة نابعةً من ممارستها للمهارات الهجومية أكثر من الدفاعية، بقدر ما كانت لصيقةً بكيفية حدوث قفزات نوعيّة في فعلها المقاوم برغم الحصار الخانق حول رقبة غزة. ولا يخفى أن المقاومة، وبخاصة الفصيلان الأكبران في هذه الساحة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، استفادا من جولاتهما القتالية السابقة، وتجاوزا الأخطاء والثغر، وما يلي استعراض سريع لتاريخ جهازين عسكريين خرّجا أجيالا من الشهداء والمقاتلين.
كتائب القسام

لم يكن تشكيل النواة العسكرية لحركة «حماس» على خط موازٍ مع ظهور منظومتها السياسية عام 1987، بل رسّخت القيادة التاريخية للحركة قاعدة العمل الجهادي ضد العدوّ الإسرائيلي منتصف عام 1984، لكن دونما عمل منظم يضبط إيقاعه جناح مسلح ذو بنية هرميّة محددة. مع ذلك، مثّلت تلك المرحلة انعطافة مهمة في تاريخ هذه الحركة المنضوية تحت عباءة «الإخوان المسلمون» بتبنيها مقاومة المحتل.
ومع أن «حماس» من آخر الفصائل الفلسطينية الكبيرة التي تبنت الخيار المسلح، فإنها تظهر بعد سبعة وعشرين عاما أنها في أوج شبابها.
في البداية كان العمل المقاوم لها يحتكم إلى جهاز عسكري يحمل اسم «المجاهدون الفلسطينيون»، فيما كان جهاز «مجد» الأمني يضبط تماسك الجبهة الداخلية ويتعقّب عملاء الاحتلال. وصحيح أن الزخم الجماهيري للحركة كان متركّزاً في غزّة، لكن الضفة شهدت بناء خلايا تحت اسم «كتائب عبد الله عزام».
عام 1992، انصهرت كل هذه التسميات في اسم «كتائب الشهيد عز الدين القسام» بعد عملية قتل حاخام مستوطنة كفار داروم (ورون شوشا)، وخصوصاً مع انتقال الشهيد عماد عقل إلى الضفة لتعزيز الاسم. والقسام شهيد سوري خاض معارك ضارية ضد قوات الانتداب البريطاني في أحراج يعبد (قضاء جنين) عام 1935. بنى اللبنة الأساسية للذراع المسلحة للحركة الشهيد القائد صلاح شحادة، في وقت برز فيه المؤسس الروحي الشهيد أحمد ياسين، ومن الأسماء اللامعة لقادة «حماس» القادة إبراهيم المقادمة ويحيى عياش ووليد وعماد عقل وياسر النمروطي وعبد العزيز الرنتيسي ومحمود أبو هنود وعادل عوض الله ومحمود المبحوح، إضافةً إلى عضو المكتب السياسي الحالي للحركة يحيى السنوار، الذي كان يتولّى الملف الأمني في تلك المرحلة. ولا ترسم «القسام» خطاً فارقاً بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأخرى المحتلة عام 1967، لكنها تلتزم العمل في نطاق حدود فلسطين التاريخية من رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش جنوباً. وأخذت الكتائب منحى تصاعدياً في تمتين قوّتها العسكرية وفرض وزنها بجانب حركات التحرّر الأخرى برغم محاولات قصّ جناحها من الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية، التي زجّت بعدد من قادتها في سجونها بعد اتفاق أوسلو 1993، كمهندس العمليات الاستشهادية محيي الدين الشريف، الذي اغتيل على يد جهاز الأمن الوقائي.

نجحت سرايا القدس
في تهريب أول صاروخ غراد إلى غزة عام 2006


باتت «القسام» في تركيبتها وسلّمها التنظيمي أشبه ما تكون بجيش نظامي يتألّف من ألوية وكتائب وفصائل، حتى إنها قسّمت عملها إلى وحدات مستقلّة بحد ذاتها، مثل الكوماندوز (النخبة)، والمضاد للدروع، والهندسة، والدفاع الجوي، والقنص، والمدفعية، ووحدة الاستشهاديين، والإسناد، والكمائن، وأخيراً الضفادع البشرية التي أتقنت عملها لأول مرّة خلال العدوان الأخير.
ولا يزال مكتب الكتائب الإعلامي يعرض زمن الثورة بالسكين والحجر ثم الأسلحة الرشاشة والعبوات الناسفة في الانتفاضة الأولى، إلى أن أشهرت الكتائب ورقة جديدة بوجه الاحتلال في الانتفاضة الثانية، وهي ابتكارها صواريخ بدائية محلية الصنع قبل أن تتحوّل منظومة المقاومة الصاروخية إلى خطر حقيقي يتهدّد مصالح الاحتلال.
استثمرت «القسام» علاقتها مع محور الممانعة، وكذلك تولي «حماس» دفّة الحكم في القطاع لبناء شبكة إمدادات قوية تحت الأرض، وتطوير قدراتها الصاروخية وتكتيكاتها في التعامل مع الاجتياحات البرية. كذلك، تتميز الكتائب ببصمتها الخاصة في عمليات أسر جنود الاحتلال منذ عام 1988. فهي نجحت في أسر 7 جنود كان آخرهم شاؤول آرون، وتمكّنت من إنهاء ملف الجندي جلعاد شاليط بمبادلته بـ 1020 أسيراً عام 2011. ويتوّلى محمد الضيف حالياً قيادة أكبر جناح مسلح في القطاع بمساعدة ذراعه اليمنى مروان عيسى خلفاً للشهيد أحمد الجعبري.

سرايا القدس

لم تتأخّر حركة «الجهاد الإسلامي» عن تجسيدها الفعلي لأيديولوجياتها المبنية على مشروع التحرير، وهي أول فصيل إسلامي يكوّن ذراعا مسلحة في مطلع الثمانينيات، وكان لها الأسبقية في خوض المواجهة العسكرية مع الاحتلال تحت اسم «المقاومة الإسلامية في فلسطين» والقوى الإسلامية المجاهدة «قسم»، في الانتفاضة الأولى. وكانت «الجهاد» من أوائل من أشعلوا ثورة السكاكين بين عامي 1982 و1983، ثم عمل مؤسسها وأمينها العام الشهيد فتحي الشقاقي في مرحلة اعتقاله على تفعيل الخلايا العسكرية من داخل السجون (1982- 1985) للتعبئة وإعطاء أوامر بعمليات الهجوم بالقنابل والذخيرة على جنود الاحتلال في الضفة والقطاع.
وأشرف على التطور النوعي والعمليات الاستشهادية الشهيدان محمود الخواجا وهاني عابد، وتسارعت وتيرة العمل العسكري بعدما نجح ستة من مجاهدي «قسم» في الفرار من سجن «غزّة المركزي» عام 1987، وقادت سلسلة عمليات كبرى قبل أن تتفكّك المجموعة إثر استشهاد عدد من أفرادها، فيما كان مصير الباقين بين الاعتقال والتسلل خارج القطاع.
استثمرت «الجهاد» إبعاد قادتها إلى مرج الزهور في جنوب لبنان عام 1992 لتوسيع علاقتها مع حزب الله وإيران، ما ساهم في إحداث قفزة نوعية، لكنها تلقت حملة كبيرة من السلطة استنزفت اللحم الحيّ للحركة. إثر ذلك، أعادت الحركة بناء جهازها العسكري تحت اسم «سرايا القدس»، لكن حادثة اغتيال فتحي الشقاقي في مالطا عام 1995 أدخلت الجهاز العسكري في تحدّ كبير.
برغم ذلك، تمكّنت السرايا من اجتياز هذه المحنة وأعادت ضخّ دماء جديدة في، ولمعت في معركة مخيم جنين بقيادة الشهيد محمود طوالبة عام 2002 وجملة من العمليات الاستشهادية. كما وضعت لمستها الخاصة في تهريب أول صاروخ غراد إلى غزة عام 2006.
انفرد ثاني أكبر جناح مسلّح في القطاع خلال آذار الماضي بحملة صاروخية تحت عنوان «كسر الصمت»، كما عمل بقوة موازية للقسام في هذه الحرب بقيادة خالد منصور، وما يزيد زخمها أنها بعيدة عن الخلاف السياسي على السلطة.