سميح القاسم منطقة خاصة في الشعر الفلسطيني والعربي، لم يعد ممكناً منذ نهاية السبعينيات حصرها في مصطلح «شعر المقاومة». المصطلح لم يأت من داخل الكتابة الشعرية الفلسطينية في الداخل، بقدر ما كان اقتراحاً سياسياً وصل من الخارج. ولعل إطلاقه على أيدي كتاب ثوريين مثل يوسف الخطيب وغسان كنفاني وقبل ذلك محمد البطراوي، هو ما سمح بتكريسه كهوية واصلت التصاقها بشعر الأرض المحتلة، وحددت معايير للكتابة مستمدة من مفهوم المقاومة نفسه وليس من بنية الشعر وغاياته.
هكذا تشكلت قائمة «شعراء المقاومة» التي ضمت تحديداً أسماء الشيوعيين أو الذين كانوا محسوبين على الحزب الشيوعي الإسرائيلي «راكاح» حينها مثل توفيق زياد وسالم جبران، وبالطبع القاسم ودرويش، فيما بقيت هوية شاعر مؤسس مثل راشد حسين محكومة بتلك المسافة بينه وبين الحزب، خارج الشرط «النضالي».
تغير شعر سميح وذهب الى مناطق أرحب وأسئلة وقلق جديد، بينما كان عبء المصطلح «شاعر المقاومة» يدفعه أحياناً كثيرة الى تمرد لا يخلو من الارتباك. منطقة سميح تكمن بالضبط في تلك النقطة، وفي محاولته الجمع بين احتفاظه بالصفة ورغبته في التجريب. لم تأخذه المغامرة الشعرية بعيداً. بقي محافظاً في مكان من تجربته على الصفة التي اقترحتها «السياسة» المتمثلة بالإيقاع والأداء الجسدي، ولكنه واصل التجريب. كان مجرباً بطريقته، ذلك التجريب المأمون المتكئ على قراءات كلاسيكية عميقة قادته في النهاية الى أشكال محافظة تماماً.

كان عليه أن يتحرّر من مفهوم الطائفة في إصرار معلن على عروبته التي حكمت خياراته



في النواة، كان عليه أن يتحرر من أطواق كثيرة أخرى، وأن يقطع شوطاً أبعد وأكثر تعقيداً، وهو ابن الطائفة الدرزية التي فرض عليها القانون الإسرائيلي التجنيد في الجيش، في سياق سياسته في تفكيك مكونات المجتمع الفلسطيني في الداخل. مقاومة سميح بدأت من هناك، مواجهة فردية تمس كل مكونات حياته وثقافته وذاكرته المبكرة وإصرار معلن على عروبته التي حكمت خياراته الشعرية والسياسية. كان عليه أن يواجه مفهوم الطائفة وأن يتحرر منه ويعترض عليه، وهو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، وأن يواصل ذلك ويذهب بعيداً في تلك المواجهة نحو هوية وطنية وقومية أوسع وأرحب من سياج الطائفة. هذا ما فعله سميح وحيداً وبدأب الوطني وعناد المقاتل وشجاعته، وهو أمر لم يكن مطلوباً من شعراء آخرين مثل زياد وجبران ودرويش.
كان عليه أن يتحرر أيضاً من تلك الثنائية المرهقة التي ربطته بدرويش، وهي ثنائية تم تسييجها ورعايتها سياسياً رغم الافتراق الفني واختلاف التجربتين الذي ظهر مبكراً. الرغبة العميقة بالانفصال دفعته في أحيان كثيرة نحو التمسك ببداياته في لحظات التوازي. كانت ثنائية قادمة من الستينيات ومن فترة محدودة ورافقته الى لحظة رحيله. أظن أنّ ذلك الربط بينهما كان عبئاً على الاثنين على نحو مختلف. محمود حاول التحليق بعيداً عن تلك البقعة، بينما سميح واصل الحفر في أرجائها. لكن الثنائية بقيت حية بعدما اكتسبت بُعد المقارنة، حتى بعدما لم يعد في مراحلهما اللاحقة ما يعزز أو يشي باقتراح التوأمة ذاك.
سميح لم يُقرأ جيداً، كان قراؤه قد أنجزوا قراءتهم له منذ وقت طويل وأنجزوا تنميطه، وكان هذا يؤلمه.
* شاعر فلسطيني