من يسمع عن قطاع غزة، وما يحصل فيه كل وقت، من عدوان إسرائيلي يصبّ غضبه عليه، يمكن أن يتوقع مكاناً موحشاً بائساً قاحلاً، لا لون فيه، ولا جمال. لا لوم على من يتوقع هكذا، فالحرب والصواريخ الإسرائيلية التي نقرأ عن مواصفاتها، وكمّ الموت الذي تحمله، من الطبيعي أن تزيل الحياة من صورة الحياة في غزة. ولا سيما أن تلك الصواريخ في أكثر من عدوان، دبّت دبّها على المنازل والأبنية، ولصغر مساحة غزة (360 كيلومتراً مربعاً)، يظنّ المرء أحياناً أنه لم يعد في غزة حجر على حجر.
«أحاول أن أرسم رائحة الشهداء» الفنان باسل المقوسي

لكن غزة واقفة ولا تموت
خلال العدوان الأخير، والذي سبقه، كنت أتابع صفحات التواصل الاجتماعي، لالتقاط أخبار إضافية من الأرض، يكتبها الناس الذين يلتزمون منازلهم، فلا ملاجئ في غزة، يحتمي فيها الناس. وكان من ضمن الصفحات التي ظهرت أمامي، ولاحقاً تعمّدت الدخول إليها، صفحة الفنان الفلسطيني باسل المقوسي الذي يعيش في قطاع غزة. في منشوراته، جمال يرسمه من قبح الحرب، يبدو أنه كان يرسم، وصوت القنابل والقصف في أذنيه، فلا صوت آخر، كما يبدو في فراغ غزة، حين تكون الحرب.
في أحد منشوراته يكتب «إن عشت فعش حراً، أو مت كالأشجار وقوفاً… لسنا بخير لا تصدقونا... وأنا شخصياً ضد موتنا المجاني... سلامُ يا مدينة، لا تموت، ولا تعرف الانحناء!"، مع بداية منشوره المأخوذ من أغنية سميح شقير الشهيرة، وأوسطه حين يعاتب ربما الحاضر والتاريخ، يعود ويختتم، بتحدّ كبير، كأنه تحدّ للحزن والألم، وليس للموت الذي يحاصر غزة كما يحاصر فلسطين، فالرجل ضد «موتنا المجاني»...
لربما حمّلت منشوره أكثر مما هو حمّله، لكنه في منشور آخر، أحب أن أظن أنه يجيبني، يضع الفنان باسل المقوسي صورة لحفيدته بـ«الكريجة» ويكتب «الحرب الأولى مع مريووووم حفيدتي... The First war with Mariam, my Grandddaughter" هذا المنشور، يضع حداً لكل شيء، يمكن أن يعطل الحياة، فيه من السخرية والألم والأمل، ما يكفي، ليجعلني أتخيّله، يواجه بكفه السماء ليلتقط صاروخاً إسرائيلياً بين إصبعيه، ويحوّله إلى لعبة تعبث بها حفيدته مريم.
من مجموعة «مجانين الحرب» الفنان باسل المقوسي

باسل المقوسي، إنسان أعرفه من خلال صفحته في «فيسبوك»، أتابعه بصمت، لكن هذا الفنان دلّني على وجه آخر لمكان، نسمع عنه يومياً، عن عذاباته، عن وجع حصاره لما يزيد على 15 عاماً، نعلم كم نال من الحرب، وكم نالت الحرب من أبنائه، لكننا قلّما نعلم عنهم من تحت، بين بيوتهم وفي بيوتهم، فإما نراهم بعد الحرب، إن كانت بيوتهم قد تدمرت، أو إن كانوا قد فقدوا من بينهم شهداء، أو لأسباب أخرى قليلة، لكن قلّما نراهم في الحياة، خارج مصطلحات الحصار والحرب، لذلك فنان مثل باسل المقوسي، ومن مثله في غزة، دلّوني، على حياة بالألوان.
«أحاول أن أرسم رائحة الشهداء»، عبارة كتبها مع نشر أكثر من لوحة له، وصحيح أن العبارة مستفزة في خلق أسئلة كثيرة، منها على الأقل، هل سيشتم المشاهد للوحة، «رائحة الشهداء» بالأنف أم بالعين هذه المرة؟ لكن مع صعوبة العثور على الإجابة، وأنا أتأمل اللوحة، شعرت بأن القلب سيستنشق الشهداء، ليبقوا فيه، أحياء، كما يريدهم باسل المقوسي.
لندخل صفحة باسل المقوسي، الفنان الفلسطيني من قرية دمرة، اللاجئ في غزة، لنعرف غزة، لنحميها من ضعف حيلتنا، ولنشعر بأن فيها من يقوّينا على الإيمان بفلسطين. ادخلوا صفحة الفنان فايز الحسني شقيق الشهيد إياد الحسني الذي استشهد في «ثأر الأحرار» ووالد الشهيد الفنان رماح الحسني الذي استشهد عام 2011. وادخلوا صفحة الكاتب خالد جمعة المقيم في الضفة والذي عاش معظم حياته في غزة، وجربوا أن تشاهدوا فيلم «أوتار مقطوعة» للمخرج الغزي المبدع أحمد حسونة، جربوا كل هذا، لتعرفوا، أن الحرب لا تقتل تماماً، فهي لا تقدر على قتل حب الحياة والأمل.