يوم خاض مرشحو «التغيير» الانتخابات النيابية، قبل عام تماماً، حصّنوا أنفسهم بانبثاقهم من «انتفاضة 17 تشرين» و«شرعيتها الشعبية». 340 ألف لبناني صوّتوا للوائح «التغيير»، وأدخلوا إلى البرلمان كتلة غير متجانسة أيديولوجياً، ومنقسمة على وقع الانقسام السياسي العمودي في البلد. خاض النواب الـ13 (قبل إبطال ميابة رامي فنج) الانتخابات بتسوية شبيهة بتسويات الأحزاب التقليدية، قامت على الحد الأدنى من التوافق، وبشعارات فضفاضة حول «حب الحياة»، أو شعبوية كــ«نزع سلاح حزب الله» و«استرجاع أموال المودعين»، من دون خيارات اقتصادية واضحة. حاول بعضهم، خلال الحملة، إخفاء هوية 14 آذارية واضحة، وتغاضى بعضهم الآخر عن ذلك. غاية الانتخابات وشعارات «التغيير» برّرت تحالفات سرعان ما سيتبيّن أنها ابنة ساعتها، وأن ما يجمع بينهم يشبه ما يجمع كثيرين منهم بـ«المنظومة» التي رفعوا شعار مواجهتها... قبل أن تفضح الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد التناقضات في ما بينهم، وتبيّن الجلسات التي تلت أن «التغيير»، بالنسبة إليهم، لا يعدو كونه بهلوانيات استعراضية واعتراضات شعبوية، مع «رشّة» من الدراما والشموع والورود، من دون قدرة على المواجهة الحقيقية وسط سيطرة الكتل الحزبية والطائفية.بدأ «التغييريون» لعب دورهم في الحياة السياسية بالأدوات نفسها التي جاؤوا لتغييرها. مع استحقاق انتخابات الرئاسة، أطلقوا مبادرة جالوا فيها على الكتل النيابية في مراكزها الحزبية، مكرّسين المداولات من خارج المؤسسات الدستورية، في استكمال لمشهدية لقاءات عين التينة وقريطم وغيرهما. واستعاروا لمبادرتهم «ردّية» القوى التقليدية حول «لبننة الاستحقاق» وانتخاب «شخصية من خارج الاصطفاف السياسي»، من دون أن يتفقوا على اسم مرشّح يخوضون به معركتهم بمعزل عن قوّتهم في فرضه رئيساً.
لاحقاً، وفي مشهدية عبثية تشبه عبثية «السلطة» التي انتفضوا عليها، استظلّ بعضهم بمواد دستورية وقرروا أن يبيتوا في البرلمان حتى عقد جلسة لانتخاب الرئيس، لينتهي بهم الحال، اليوم، جزءاً من اجتماعاتٍ هدفها توافق الأحزاب المسيحية (التيار الوطني الحر والقوات والكتائب) على مرشح يواجه مرشح حزب الله وحركة أمل سليمان فرنجية، مرتضين أن تكون أصواتهم إضافة إلى اتفاق يرضي حلفاً طائفياً على حساب حلف طائفي آخر، كلاهما في صلب «الاستبليشمنت»، ما خلا خروقات لقلّة منهم بدأت تواجه اتهامات بالتخوين لمعارضتها السير في أجندة القوى «السيادية» لفرض رئيس مواجهة بهواء 14 آذاري. فيما سخّر «صقور» المجموعة، كوضاح الصادق ومارك ضو وبولا يعقوبيان وميشال الدويهي، جهودهم لإعادة تظهير خطاب 14 آذار بشكلٍ أكثر مقبولية، «عالكين» الخطاب نفسه المناهض لحزب الله، في محاولة للإيحاء بأن الانقسام لم يعد بين 8 و14 آذار، بل بين 8 آذار و17 تشرين. واعتمد هؤلاء أسلوب «فحص الدم» لزملائهم بناء على الموقف من السلاح، رافضين مقاربة أخرى تعطي الأولوية لبناء دولة قادرة على رسم سياستها الاستراتيجية. صورة الخلافات نفسها انسحبت على «النقاش لتطوير نظام الحكم والوصول إلى عقد اجتماعي جديد» التي يؤيّدها إبراهيم منيمنة وفراس حمدان، على نقيض الصادق الذي رسم «خطاً أحمر» أمام المسّ بنظام «الطائف»، والذي يفترض أنه ترشّح ليحدث تغييراً فيه. وبدا أن من يصوّب على «المنظومة» لا يريد تغييرها بل تغيير رموزها على طريقة «قم لأجلس مكانك»!
بدا أن من يصوّب على «المنظومة» لا يريد تغييرها بل تغيير رموزها فقط


سنة كانت كافية لتتسع الهوة مع جمهورهم المفترض، عندما اعترف «التغييريون» بمن لحّنوا له «الهيلاهو»، وبمن وصفه بعضهم بـ«الإرهابي»، وبمن ركب موجة الانتفاضة، مقابل تكريس أنفسهم لاعباً سياسياً يدخل في حسابات موازين القوى. ساءت العلاقة مع القاعدة الشعبية لأن أحداً لا يريد مراجعة التجربة ومصارحة الناس بضرورة الاقتناع بأن لا ثورة قامت ولا انتفاضة يبنى عليها، ولا «17 تشرين» مرجعية، بقدر ما هي حركات احتجاجية أساسية كان يمكن البناء عليها قبل فوات الأوان.
اجتماع تكتلات نيابية مع بعضها بعضاً أمر طبيعي. لكن يؤخذ عليهم أنهم جهّلوا الفاعل وعمّموا مسؤولية الخراب على «المنظومة»، من دون الدخول في تسمية الأمور بأسمائها، تماماً كما تفعل قوى السلطة. دفع الناس ثمن سنوات من غياب التنظيم السياسي لمصلحة ممارسة السياسة على الطريقة الـ«إنجيؤزية»، من تسخيف العمل السياسي والنضال المطلبي. كما دفعوا ثمن عدم معارضة النظام لأن هناك «نخباً» لم تقرأ التاريخ كما تمليه الأزمة بشقّيها السياسي والمالي، والتي بدأت عند توقيع «اتفاق الطائف»، بل قرأته على هوى رغباتها ومن منطلق اعتراضها على قوى معيّنة... لا على النظام الذي تستخدم لغته بربطها الحل بانتخاب رئيس للجمهورية.
خارج ساحة النجمة قطاعات تنازع واقتصاد منهار ومواطنون مرهون مصيرهم بجواب النواب حول أي اقتصاد نريد للبلد، وشكل النظام المالي لعقود مقبلة. هنا كان الرهان على وحدة الـ«جايين للتغيير». لكن، هنا أيضاً، وقع الافتراق بينهم ليفرزهم هذا الاستحقاق بين كتلة داعمة للطبقات الشعبية ترفض خطة جمعية المصارف وتحميل المجتمع ثمن الخسارة، وأخرى تخدم مصلحة الطبقة المتحكّمة تناصر بيع أملاك الدولة لإنقاذ حيتان المال، ووسطيين لا معنى لهم.



ما لهم وما عليهم
يُحسب لعدد من «التغييريين» توجيه أسئلة إلى الحكومة أهمها إلى وزير المال يوسف خليل، لمساءلته على خلفية تكبيد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خزينة الدولة 16 مليار دولار كدين إضافي. وتوجيه أسئلة إلى وزيري التربية عباس الحلبي والصحة فراس الأبيض.
فضلاً عن إرغام السلطة على إجراء انتخابات لجان نيابية، والحرص على حضور جلساتها، ومحاولة التأثير في مسارات معيّنة، كتشدد حليمة القعقور وفراس حمدان وإبراهيم منيمنة وبولا يعقوبيان وياسين ياسين لإضافة بند على اقتراح قانون السرية المصرفية لجعل مفعوله رجعياً إلى ما قبل العام 2019، معارضين مصلحة جمعية المصارف بشكل واضح. ونقاشات أخرى خاضوها طاولت ترتيب المسؤوليات في موضوع النظام الضريبي. كذلك طعنوا في قوانين أمام مجلس شورى الدولة كقانون التمديد للمجالس البلدية، وقانون السرية المصرفية، إضافة إلى تقديمهم مجموعة قوانين.


الدفاع عن النفس
بشبه إجماع، يجيب غالبية النواب الـ12، بأنّ «الوقت كفيل بمراكمة خبرتنا في العمل السياسي» بحسب ياسين ياسين. أما إبراهيم منيمنة فيعتبر أن «النموذج قد لا يلبي سقفِ الطموحات لكنه بداية للتعلّم من التجربة»، ويستخلص أنّه «مهما كان عدد النواب يبقى عملهم ناقصاً إذا لم تؤيّدهم كتلة شعبية تنتمي إلى تنظيم سياسي». وفي حين يرى فراس حمدان أنّه «لا يمكن تغيير الواقع السياسي، ولا النظام، ولا القدرة على محاسبة وزير أو تجنّب شغور رئاسي، إنما التأثير على العملية السياسية». تقرّ بولا يعقوبيان صراحة بـ«انقسام التكتل إلى مجموعتين بوجهتين مختلفتين سياسياً واقتصادياً، انعكس عدم توحيد للقرار منذ البداية».