لا شيء يخيف الصهاينة والحضارة الغربية قدر «الأبطال التراجيديين» المشرقيين الذين قاوموا «الاحتلالات الإمبريالية». إنها لعبة «الرواية» ومَن يمتلكها. انطلاقاً من هذا، يمكن النظر إلى مسلسل «أشباح بيروت» (Ghosts of Beirut) الذي تنتجه شبكة البث التدفقي والكلاسيكي Showtime عن قصة حياة القائد المقاوم، والعقل الكبير، عماد مغنية (1962 ـــــــ 2008). المسلسل الذي رُصدت له ميزانية كبيرة، يصوّر تلك الحقبة الزمنية التي أنتجت قائداً بهذا الحجم والطراز، والمقدرة والمدى. من المتوقع، حتى قبل صدوره غداً، أن يظهر مغنية بمثابة «إرهابي مارق»، وشخصية «شريرة» على غرار تلك التي ظهرت بها شخصيات مقاومة في المسلسل الصهيوني «فوضى». اللافت أنَّ شبح مغنية لا يزال يرعب الصهاينة والأميركيين حتى بعد مرور خمسة عشر عاماً على استشهاده. واختراعُ مسلسلٍ مبنيٍ على الوهم لتشويه أعماله وسمعته، ما هو إلا جزءٌ من ترسانة الحرب الناعمة التي يخوضها الصهاينة والأميركيون عبر ماكيناتهم الإعلامية. إنها «حربٌ مفتوحة»، حربُ فضاءٍ افتراضي لرواية الحكاية والقصّة: مَن ينتصر فيها هو الذي يجيد رواية الحكاية لأن الناس لا يصدّقون «أصل الحكاية» و«صدقها» بل يصدّقون الحكاية المسبوكة والمحكية بطريقةٍ جيدة، تلامس المشاهدين.

منذ اللحظة الأولى، يتباهى المسلسل بأنّ صناع العمل هم ذاتهم الذين قدّموا المسلسل «الناجح» (كما يشيرون) «فوضى» أي آفي آسخاروف وليئور راز. الأخيران من ضباط الأمن والاستخبارات الصهاينة، لهما باعٌ طويل في العداء للعرب كما للمقاومة. إذاً نحنُ أمام مسلسلٍ غير عادل منذ دقائقه الأولى، إذ كيف لأعداء مغنية الأوائل أن يكونوا عادلين في رواية «حكايته» الشخصية؟ هذا على افتراض أنَّ الصهاينة عادلون في رواية أي شيء. وإذا كانت العدالة كتلك التي ظهرت في مسلسل «فوضى» أو مشابهة لها، فالمشاهد سيكون على موعد مع تشويه منهجي، مقنّن، ومركّب باحترافية لتقديم صورة أحد أهم قادة المقاومة في لبنان والوطن العربي، والمسؤول الرئيسي عن طرد القوات المحتلة من صهيونية وسواها من أرضه، وما انتصار عام 2000 والصمود في عام 2006 إلا نتاج بنات أفكار وجهد هذا القائد المقاوم الفذ.
يتباهى صنّاع العمل في «شو تايم»، بأنّ هذا العمل هو نتيجة «تحقيقات صحافية مكثفة» وجهد متواصل لأعوام لإصدار «مادة كاملة» عن الرجل الذي «أذهل» و«راوغ» ملاحقيه من أجهزة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) والصهيونية (الموساد) ولم يستطيعوا القبض عليه. المشكلة في كل ما ورد أن مغنية كان شخصاً «ظلاً»، أي إنّ لا معلومات عنه بخلاف تلك التي يمرّرها الحزب الأساسي الذي عمل له وفيه ونعني «حزب الله».

يجسّد أمير خوري دور مغنية في شبابه

بالتالي، فمعظم الصور سمح الحزب اللبناني بنشرها وأجازه، ناهيك بالمعلومات الكثيرة عن حياته هي فقط ما مرّره الحزب أو سمح بتمريره. بالتالي منطقياً، ليس هناك من معلومات حول الرجل، لا من جهاتٍ غربية، ولا من غيره. باختصار شديد، كل ما كُتِبَ وسيكتب وصوّر وسيصوّر في هذا الوثائقي، هو ببساطة من بنات أفكار منتجي العمل وصنّاعه، ولا يرتبط بالحقيقة إلا في اختيار أماكن تواجده، كـ «مسجد بئر العبد» في ضاحية بيروت الجنوبية، والحادثة الشهيرة إبان محاولة اغتيال العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله، والذي كان مغنية مسؤولاً مباشراً عن أمنه، وهذا ليس سراً البتة، أو سواهما من الأحداث التي يعرفها الجميع وليست خبيئةً أيضاً. وقد أشار صنّاع المسلسل إلى أنّهم اعتمدوا على «مقابلات حصرية وأصلية» لشخصيات من الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للحديث عن مغنية، فكيف يمكن الإشارة إلى «عدالة» أو «موضوعية» من أي نوع للحديث عن هذه الشخصية، خصوصاً مع تغييب أي ذكر للرأي الآخر، إذا ما افترضنا حسن النية.
كاتبة المسلسل ليست سوى جويل توما، المؤلفة اللبنانية لأعمال عدة مثل فيلمَي «قضية رقم 23» و«الصدمة» اللذين اشتركت في صناعتهما مع زوجها السابق المخرج اللبناني المطبّع زياد دويري. «الصدمة» هي في تصويره وإنتاجه في كيان الاحتلال. لذلك، فإنَّ لتوما خبرة في التعامل مع الصهاينة «سينمائياً» وهذا ليس عملها الأوّل. لم تكتفِ توما بكتابة المسلسل، بل إنها شاركت كمنتجة منفذة في العمل. من خلال عمليها السابقين («القضية رقم 23» و«الصدمة»)، قدّمت توما ودويري رؤية «خاصة» للقــضية الفلسطينية تساوي بين الجلاد والضحية في الأوّل، وتسخّف وتشوّه العمليات الاستشهادية في الثاني. كلا الرأيين يتبناهما الصهيوني على مختلف الأصعدة، وهذا أيضاً يُضاف إلى «لغة» المسلسل الحالي وثقافته
وفلسفته.
يتباهى المسلسل بأنَّ صناع العمل هم ذاتهم الذين قدّموا مسلسل «فوضى» الصهيوني


من جهةٍ أخرى، جاء اختيار الممثلين مطعّماً بالفكرة نفسها. الممثل والمخرج المسرحي الفلسطيني هشام سليمان (مواليد الناصرة ـــ 1978)، الذي أدى دور قائد فلسطيني بطريقة قذرة للغاية في مسلسل «فوضى»، يعود هذه المرّة في الدور الرئيسي، فيما أدّى أمير خوري (مواليد حيفا ـــ 1995) دور عماد مغنية إبان شبابه. سليمان المعروف بتأييده للصهاينة ولجيشهم، كان قد حاضر قبل مدّة أمام «مجندين» شبان إبان التحاقهم بجيش الاحتلال الصهيوني؛ مشيراً إلى «أهمية» الدخول إلى الجيش الصهيوني، قبل أن يستدرك ويحكي لصحيفة فلسطينية أنه كان حاضراً في ذلك اللقاء لتعريف «الجنود الصهاينة» بالعرب وبوجهة النظر العربية. إن كانت «وجهات نظر» هشام سليمان مشابهة لأدواره في مسلسلاته، فإنه من الطبيعي أن يلتقي بصغار المجنّدين ـــ أو حتى كبارهم ــــ فهو يتماهى بشكلٍ وضيع مع الصهاينة قلباً وقالباً. وفي المقطع الدعائي للمسلسل، يُسمع صوت سليمان وهو يقول في كلامٍ مفترضٍ لمغنية: «تضغط على الزر وتذهب إلى الجنّة» في لغةٍ غبية للغاية في اختزال وتسطيح الفعل الاستشهادي ذي البعد العميق لدى الشارع المقاوم. طبعاً لا يفهم الصهاينة وكتّابهم هذه الفكرة، ولا يقاربونها إلا من خلال نصٍّ مستهلك قائم على سردية «غباء الاستشهاديين» و«تغييبهم». مع العلم أنَّه لو بحث صناع المسلسل ولو قليلاً حول «ثقافة الصراع» العربي الصهيوني، وتغلغله، لفهم لماذا استشهد شبابٌ في عمر الورد في مواجهة الصهاينة، ولا يزالون يفعلون يومياً من دون الحاجة لأي «غسيل دماغ» ذلك «أنَّ صدمة الاحتلال ووجوده وسلوكياته اليومية وتوحّشه وتغوّله، هي السبب الرئيس في توجّه الفلسطينيين –أو اللبنانيين- لمنطق وسلوك مماثلين» وفق ما يشير إيلان بابيه، المؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي المنشقّ، وأحد أبرز «المؤرخين الجدد لما بعد الصهيونية». من جهةٍ أخرى، تظهر في الشريط الدعائي القصير الذي لا يتجاوز الدقائق الأربعة، مشاهد من عواصم عدّة، أهمها بيروت وفق ما يبدو، والمناطق «الشيعية» التي نشأ فيها القائد الشهيد، في محاولة لإضفاءٍ واقعية على العمل.

كتبت العمل جويل توما ذات «الخبرة» في التعامل مع الصهاينة «سينمائياً»

لكن كالعادة فاتهم الكثير من ألفة تلك المناطق، فبدت جافة تشبه أحياء «غريبة»، وتشبه الجزء الرابع ــــ والفاشل للغاية ــــ من مسلسل «فوضى» الذي صوّر صراع «أبطال الموساد» الوهميين داخل مناطق نفوذ المقاومة اللبنانية وانتصارهم ـــ الوهمي كذلك ـــــ عليها في عقر دارها؛ وهو ما لم ـــ ولن ـــ يحصل.
مسلسل «أشباح بيروت» الوثائقي الممتد على أربعة أجزاء، هو استكمال ـــ كما أشرنا ـــ من حرب الصورة والفكرة قبل أي شيء آخر. هو موجّه لأجيالٍ جديدة، بعضها لم يعرف الشهيد مغنية ولم ير تأثيره. يهدف الصهيوني من خلال هذا العمل وغيره، إلى «تخليق» ذاكرةٍ جديدة مشوّهة حوله. الدعوة قبل أي شيء هو إلى المؤسسات المسؤولة عن حفظ آثار هذا الشهيد ــــ وإلى حزبه كذلك ـــــ لإنتاج عملٍ يليق به وبسمعته وأثره، لا مساوٍ فقط في القيمة، بل لرواية حكايته كما تليق به، وكما يستحقّ، لا أكثر ولا أقل.

* Ghosts of Beirut بدءاً من الغد على Showtime