انجلى غبار المعركة الرئاسية التركية عن نصف فوز لرجب طيب إردوغان، الذي تتزايد المؤشّرات إلى إمكانية حسمه الجولة الثانية لصالحه، في ظلّ تمتّعه بنقاط أفضلية عديدة على مُنافسه، كمال كيليتشدار أوغلو. ومع أن تجاوز الشوط الأوّل من الطريق إلى ولاية جديدة لم يكن سهلاً على إردوغان، الذي تدنّت شعبيّته إلى ما دون النصف للمرّة الأولى منذ صعوده إلى السلطة قبل 20 عاماً، إلّا أن مقاربته عتبة الفوز أظهرت جانباً من «اللاواقعية» رافق خطاب المعارضة وآمالها، وهو ما أصابها الآن بخيبة أمل بدأت تنعكس بوادر تخلخل في صفوفها. وإذ ينفتح الباب، راهناً، على عودة إردوغان ظافراً إلى قصر «بش تبه» الرئاسي في أنقرة، فإن فصلاً جديداً من فصول السياسات التي بدأ يختطّها منذ مدّة، قد ينفتح هو الآخر قريباً، وإنْ مع متاعب جلّاها الانقسام العميق في الشارع التركي ما بين «الإردوغانية» و«الأتاتوركية»
بكلّ الزخم والأمل والادّعاء والحماسة، ذهبت المعارضة التركية، بأطيافها وتحالفاتها، إلى الانتخابات الرئاسية والنيابية، والتي بدت أشبه ما تكون بمباراة نهائية في كرة القدم من دورَين ذهاباً وإياباً. ومع ظهور النتائج النهائية، بات يمكن القول إن مباراة دور الذهاب أقيمت على أرض ملعب المعارضة، وانتهت إلى خسارتها في الانتخابات النيابية، وتراجع مرشّحها كمال كيليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية. وبهذا، يذهب الفريقان إلى مباراة دور الإياب التي ستُقام على أرض ملعب مرشّح السلطة رجب طيب إردوغان، والذي ستكون له أفضليّة الأرض، كما الجمهور. أوّل أسباب هذه الأفضلية، أن الرَجل كاد يفوز بالرئاسة لولا 300 ألف صوت فقط (أي 0.50%) كانت تفصله عن تجاوز عتبة الـ50% الكافية لإعلان الانتصار، وهي نسبة تمهّد له تفوّقاً كبيراً لا تعتقد معظم الأوساط أنه سيكون صعباً عليه تحصيله، بخلاف حالة كيليتشدار أوغلو الذي سيتوجّب عليه تحصيل نسبة 5% كاملة، أي أكثر بقليل من مليونين ونصف مليون صوت. وثاني الأسباب، أن إردوغان يذهب إلى الدورة الثانية، وفي جيبه الانتصار الذي حقّقه «تحالف الجمهور» في البرلمان، مع حصوله على 322 نائباً في مقابل 268 للمعارضة من مجموع 600، وإنْ لم يصل حجم سطوته إلى النسبة التي تخوّل الرئيس التحكُّم به في قضايا إحالة الاقتراحات إلى استفتاءات (360 نائباً)، أو تعديل الدستور في البرلمان (400 نائب). وثالثها، أن وقوف مرشّح «تحالف الجمهور» على عتبة الفوز بالرئاسة، سيحفّز الأخير على تحسين أدائه في الجولة الثانية، وهو ما سيصبّ في صالحه انسجام أطراف التحالف المذكور في ما بينهم.
أمّا رابع الميزات، فعبّرت عنها مواقف المرشّح الثالث للرئاسة، سنان أوغان، والذي بات يوصف على نطاق واسع بكونه «صانع ملوك» محتملاً، بعدما تمكّن من الحصول على نسبة 5.2% من الأصوات، والكافية لترجيح كفّة ميزان الدورة الثانية في اتّجاه مرشّح بعينه، علماً أنه ليس من دلائل تشير إلى أن هذه الكتلة تأتمر كلّها بتعليمات أوغان. وتلقي بعض تصريحات المرشّح الثالث ظلالاً من الشكّ على هوية الشخصية التي سيختار دعمها، إذ يقول إنه كان ليصوّت لكيليتشدار أوغلو في حالة التزام الأخير بعدم تقديم أيّ تنازل في قضايا الإرهاب، والمقصود هنا «حزب اليسار الأخضر» الكردي. وبما أن هذا الحزب وحلفاءه منحوا كيليتشدار أوغلو ما لا يقلّ عن 10% من الأصوات على صعيد تركيا، وشكّلوا ما لا يقلّ عن ربع الأصوات التي نالها، فمن المستبعد أن يقبل مرشّح المعارضة بذلك الشرط «التعجيزي»، وأن يضحّي بأصوات الكتلة الكردية، في مقابل الحصول على أصوات أوغان غير المؤكّدة. وممّا يقوله أوغان أيضاً، إن المرشّح الذي ستصوّت له «كتلته» غير المتماسكة، سيفوز بسهولة في انتخابات الرئاسة. وهنا، ينطبق الكلام على إردوغان، نظراً إلى أن بعض الأصوات القليلة ستجعله بسهولة رئيساً.
ثمّة مناخ من الإحباط بدأ يسود قواعد المعارضة وإعلامها مع ظهور نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية


وميزة إردوغان الخامسة، تتمثّل في مناخ الإحباط الذي بدأ يسود قواعد المعارضة وإعلامها مع ظهور نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية. وفي هذا السياق، يبدو الرئيس المنتهية ولايته واثقاً من الفوز في 28 أيار، إذ غرّد قائلاً: «بإذن الله، سوف نأتي إلى 28 أيار ونحن نحمل بشرى القرن التركي. أنا أثق بكم». ومن جهتها، تَظهر وسائل الإعلام الموالية واثقة هي الأخرى من فوز إردوغان في جولة الإعادة، وبفارق كبير قد يصل إلى 54%، فيما تشير توقّعاتها إلى انهيار جبهة المعارضة قبل الدورة الثانية. وتكتب صحيفة «يني شفق» الموالية أن الفوز أصبح «في متناول اليد»، وأن «القرن التركي» الذي وعد به إردوغان سيبدأ يوم الـ28 من أيار، وستكون البلاد «أقوى في اقتصادها وصناعاتها العسكرية وسياستها الخارجية». وتعتقد صحيفة «تركيا» الموالية، بدورها، أن نصف أصوات سنان أوغان سيذهب في الدورة الثانية إلى إردوغان، الذي سيقود حملة لاستعطاف أصوات كتلة الأوّل، وقاعدة محرم إينجه أيضاً.
في المقابل، بدأت نتائج الانتخابات النيابية المخيّبة لآمال المعارضة تُحدث، منذ الآن، بعض الشروخ في جبهتها، والفتور في صفوف ناخبيها. وفي هذا السياق، تتخوّف أوساط معارِضة من تفكّك «طاولة الستة»، بحسب ما نقله الصحافي المعروف والمعارض، تولغا تانيش، عنها، لافتاً إلى أن هناك اتهامات لـ«الحزب الجيّد» بزعامة مرال آقشينير، بأنه لم يقدّم الدعم اللازم لكيليتشدار أوغلو. ووفق تانيش، فإن هناك حديثاً عن أنه إذا لم يفز زعيم «حزب الشعب الجمهوري» في الدورة الثانية، فسيصبح تنحّيه عن زعامة حزبه مطلباً وهدفاً لدى الخائبين. وعلى رغم أن كيليتشدار أوغلو وجّه إلى ناخبيه رسالة تدعوهم إلى «عدم اليأس»، قائلاً فيها إن إردوغان «لم يربح في الجولة الأولى، ونحن هنا وأنتم هنا وسنربح نحن في الجولة الثانية»، إلّا أن الشاعر اليساري المعروف، أتاؤول بهرام أوغلو، يرى أن النتائج المتواضعة التي أعقبت رفْع المعارضة سقف خطابها كثيراً خلال الحملة الانتخابية، أصابت وجمهورها بخيبة أمل كبيرة وربّما بيأس. ومع ذلك، شدّد صلاح الدين ديمرطاش، الرئيس السابق لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، المعتقل في سجن أدرنة منذ عام 2017، والذي شارك بتغريداته بنشاط في الحملة الانتخابية، في تغريدة جديدة موجّهة إلى كيليتشدار أوغلو، على أنه «لا مجال لليأس. لقد ربحنا معارك كثيرة ومن جديد سنربح».
كذلك، كانت لدى الكاتب المعارض المعتدل والمعروف، طه آقيول، الجرأة ليعنون مقالته: «لقد ربح إردوغان»، إذ يقول إن «مؤشّرات الاقتصاد السلبية والخلل في توزيع الثروة وشعارات البطاطا والبصل الواقعية خدعت مراكز استطلاعات الرأي وأعطت المعارضة أكثر ممّا نالته»، مضيفاً: «لقد تراجع إردوغان بثلاث نقاط فقط عن عام 2018، حين نال 53%، وكاد أن يفوز في انتخابات الأحد الماضي، فيما تراجعت أصوات حزب الشعوب الديموقراطي ثلاث نقاط، وتحالف الأمّة لم يحرز أيّ نقاط إضافية. فكيف يمكن تفسير ذلك؟»، ليجيب آقيول بأن السبب الأهمّ هو أن الشخصية التركية لا تزال تميل إلى «عبادة الرجل القوي»، وهو ما اشتغل إردوغان وإعلامه على تعزيزه لدى الرأي العام. وفي مقابل مطالبة المعارضة بتغيير النظام الرئاسي، عملت صورة «الرجل القوي» على تقوية هذا النظام، كما يرى الكاتب، موضحاً أن تلك الصورة تجلّت في كون «إردوغان قاوم الدول الخارجية ومحاولة الانقلاب عام 2016، (إلى حدّ ساد معه اعتقاد بأنه) إذا كان ثمّة مَن يستطيع أن يحلّ مشكلة فهو إردوغان». والسبب الثاني، وفق آقيول، هو ثقافة المكرمات والزيادات الفلكيّة التي وعد بها الرئيس، والثالث هو الخطاب الديني الذي واجه به خطاب المعارضة في التعامل مع ما يسمّيه «الإرهاب الكردي» و«المثليين» و«عدم الإيمان». وفي هذا المجال تحديداً، كان لدور الفئات المحافظة دور كبير، فيما يلفت أيضاً ما جاء في افتتاحية صحيفة «جمهورييات» المعارضة، أمس، من أن غالبية مَن أُعطوا الجنسية التركية من اللاجئين السوريين، صوّتوا لصالح إردوغان، و«لولا هذه الأصوات لخسر الانتخابات».