خصوم المرشح سليمان فرنجية في لبنان كثر. لكنّ لديه خصوماً في الخارج أيضاً. تنوّعُ الأسباب واختلافها بين الداخل والخارج، لا يعالج أصل المشكلة التي تواجه الرجل. بمعنى أن من يريده رئيساً، يفعل ذلك من ضمن سياق يتصل بعلاقة لبنان بالإقليم، وبالإقرار الضمني بصعوبة أو استحالة التغيير في تركيبة النظام. ولأنّ معظم ردود الفعل المؤيدة أو المعارضة تنطلق من هذين الاعتبارين، فإن الانقسام حوله لا يبقى ثابتاً، بل هو عرضة لتغيير دائم.وفق هذا المنطق، بدأت معركة ترشيح فرنجية الذي لا يدّعي امتلاكه عناصر قوة خاصة به وحده، بل يتصرف بواقعية وبكثير من الصراحة إزاء عناصر القوة الأساسية التي يستند إليها. فخارجياً، يتصرّف على أنه يمثل امتداداً لمحور يحقّق انتصارات في المنطقة، وأن هذا السند القوي يجعله أقل قلقاً. أما داخلياً، فينطلق من أنه لا يمثل انقلاباً على الصيغة الحاكمة منذ اتفاق الطائف، وأنه المسيحي الذي يقرّ بالتغييرات الكبيرة التي طرأت على لبنان في العقود الخمسة الأخيرة، ويقدّم نفسه كاستمرار لسياسات الفترة السابقة. وربما يتاح له الاستدلال بتجربة عهد الرئيس ميشال عون من زاوية أن الطموحات الكبيرة للتغيير التي حملها الأخير تشظّت على أعتاب النظام الطائفي.
بهذا المعنى، يظهر فرنجية مرشحاً قليل النشاط والتفاعل مع العناصر الداخلية المعنية. فهو، عملياً، لم يعتبر ترشيحه بداية لعملية سياسية تتطلب منه أن «يهجم» باتجاه الخصوم أو المترددين. وحتى عندما زار البطريرك الماروني بشارة الراعي، فإنه فعل ذلك لأن لبكركي رمزية يستعين بها أي مسيحي يريد شرعية من مرجعية الطائفة التي يمثل، وليس ليطلب منه مقترحات أو خريطة طريق. فقد اعتذر، مثلاً، عن عدم تلبية طلب الراعي عقد اجتماعات مع أقطاب القوى المسيحية البارزة للبحث في الملف الرئاسي، منطلقاً من أن لقاءً كهذا سيحضره ممثلون عن قوى لديها تمثيلها الشعبي الأكبر من تمثيله بحسب نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة. كما أنه يرفض الدخول في لعبة التصويت التي ستشطب اسمه فوراً من لائحة المرشحين. إذ يكفي أن يقول سمير جعجع وجبران باسيل وسامي الجميل إن الظروف لا تساعدهم على الترشح، حتى يخلصوا إلى أن على فرنجية عدم الترشح ليفتح الباب أمام تسوية تنتهي باختيار اسم آخر.
في هذه النقطة، يبدو فرنجية أكثر اتكالاً على الماكينة الحليفة له في المعركة الداخلية. فلا يجد نفسه معنياً بجولات حوارية أو عروضات أو نقاش مفصّل مع القوى الناخبة في المجلس النيابي. لا بل يعتقد بأنه لن يتمكن من نيل أصوات القوات اللبنانية وحزب الكتائب، ويترك الباب مفتوحاً علّ حليفه الأساسي، حزب الله، يتمكّن من الوصول الى اتفاق مع باسيل. وحتى في ما يتعلق ببقية النواب المسيحيين المستقلين، يرى فرنجية أن أيّ جهد يبذله لن يكون حاسماً في قرارهم، لأن هؤلاء ينتظرون إشارات من الخارج أو من مرجعيات كبيرة في الداخل. هذا كله يدفعه الى عدم القيام بحركة مطلوبة منه كمرشح، ما يمثل نقطة ضعف كبيرة في معركته، تضاف الى النقطة السلبية التي نجمت عن طريقة الإعلان عن ترشيحه، سواء من خلال المبادرة المستقلة التي قام بها الرئيس نبيه بري، أو حتى عبر التأييد الإلزامي الذي اضطرّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى إعلانه. ففرنجية، في الحالتين، تحوّل الى مرشح لفريق يقوده طرف يواجه خصوماً في لبنان والخارج.
خارجياً، يدرك رئيس المردة أن التوافق العربي - الدولي حول رئاسة الجمهورية لم يعد يقوم على «سيبة» ثلاثية كانت تضم سوريا والسعودية وأميركا بعد حدوث تغييرات كثيرة، أبرزها أن الأميركيين غير قادرين على فرض رأي على اللبنانيين، ولا على إلزام السعودية بتوجّه معين، ولا تربطهم بسوريا أي علاقات جدية. كما أن الرياض نفسها باتت تتعامل مع لبنان بطريقة مختلفة، وأن الأوان آن لكي يدرك معظم اللبنانيين حجم المتغيّر في السياسة السعودية التي يفرضها محمد بن سلمان، والتي لا تنظر الى لبنان كقيمة إضافية. وهو لم يكن ليغضب من هذا أو يراعي ذاك، لولا أن لديه مشكلة كبيرة في لبنان اسمها حزب الله الذي تتّهمه الرياض بأنه منع سقوط بشار الأسد في سوريا وساعد أنصار الله في اليمن على الصمود.
عثرات واجهت ترشيح زعيم المردة، بعضها سببه بعض الحلفاء وبعضها الآخر امتناعه هو عن المبادرة


لذلك، وجد فرنجية ضالّته في فرنسا. ورغم أنه ينتمي اجتماعياً إلى مكوّن تربطه بفرنسا، تاريخياً، علاقات قوية، إلا أنه يحرص على التفاهم الشامل مع الفرنسيين، لاتكاله على باريس كلاعب أساسي في معركة تليين مواقف خصومه. فهو، من جهة، يرى أن فرنسا حصلت بشكل أو بآخر على تفويض أميركي - أوروبي للقيام بهذه المهمة، وأن لها ثقلاً يتيح لها التفاوض مع السعودية وأطراف عربية أخرى حول الرئاسة في لبنان. ويستند في موقفه هذا الى أن لباريس مصالح تحتاج الى تسويات كبيرة في المنطقة، وهي مضطرّة إلى عقد اتفاق مع قوى في محور المقاومة وليس مع قوى في المحور الآخر. بهذا المعنى، لمس فرنجية «واقعية» فرنسية تمثلت بالقبول بعرض التسوية التي تسمح بوصوله الى الرئاسة الأولى، مقابل وصول نواف سلام (المرشح الأقرب الى الولايات المتحدة والسعودية) الى الرئاسة الثالثة.
لكن يبدو أن العثرات التي رافقت ترشيح فرنجية في بيروت، لديها ما يوازيها في الخارج أيضاً. إذ تفيد المعطيات الواردة من باريس بوجود حملة ضغط قوية ضد الخيار الذي اعتمده الرئيس إيمانويل ماكرون، ويبدو أن هناك فريقاً يأخذ على المستشار الرئاسي باتريك دوريل أنه يتصرف بعشوائية ويحاول فرض رأيه داخل خلية الإليزيه، وعلى القوى اللبنانية، وأنه كان فظاً في التحاور مع السعوديين أيضا. ويرى الفريق المعارض لدوريل أن الأخير يتسبب بمشكلات بعيدة المدى لفرنسا مع قوى لبنانية بارزة، ومع قوى ودول نافذة في المنطقة، من السعودية الى قطر وغيرهما ممن لديها حسابات مختلفة في لبنان. ويبدو أن هذا المناخ بات أكثر انتشاراً في الآونة الأخيرة، ووصل إلى مسامع ساكن الإليزية، حيث بدأت الأصوات ترتفع داعية ماكرون الى مراجعة موقفه، ونفض يده من ترشيح «حليف نصر الله وبشار الأسد»، بإبلاغ حلفاء فرنجية أن فرنسا بذلت قصارى جهدها ولم تنجح في الحصول على تأييد بقية القوى لانتخابه.

دوريل عرضة لانتقادات حول طريقة إدارته الملف، وانتفاضة لخصوم حزب الله وسوريا في الإدارة الفرنسية


لكن مشكلة خصوم فرنجية، في باريس والخارج، تكمن أساساً في عدم قدرتهم على تقديم بديل، وهذه ليست مشكلة بسيطة، بسبب فشل خصوم الرجل في الداخل في الاتفاق على مرشح يحرجون به ثنائي أمل وحزب الله. وهذا عنصر يستند إليه فريق ماكرون ليبقى متمسكا بموقفه، ساعياً الى خطف الورقة الرئاسية في لحظة إقليمية مناسبة.
لكن، هذه اللحظة تحتاج الى تبدّل حقيقي في الموقف السعودي خصوصاً، لأن «الحياد» السعودي الذي يُروّج له ليس سوى حيلة لم تنطلِ على أحد. فلا الفريق المعارض لفرنجية أصابه الفزع ليهرول إلى التسوية، ولا حلفاء فرنجية تلقّوا جرعة دعم تتيح لهم الانتقال من مرحلة جمع الأصوات الـ 65 الى مرحلة تأمين النصاب لجلسة الانتخاب.
كل ذلك يقود الى استنتاج بأن حسم الأمر ليس وشيكاً. إلا أن مشاورات ولقاءات متوقعة عشية القمة العربية في 19 أيار وبعدها قد تقلب الصورة، بما يتيح للبنان إجراء انتخابات رئاسية تفتح الباب أمام حل حقيقي... أو النزول أكثر الى قعر جهنّم!