مع ارتفاع حاجة البلاد من المستوردات الضرورية، وعدم توفّر كمّيات كافية من القطع الأجنبي لتغطية قيمة تلك المستوردات، تدرس سوريا إمكانية إبرام اتّفاقيات تبادل تجاري مع بعض الدول، تقوم على أساس المقايضة، ولا سيما بعدما سُجّل نجاح في تنفيذ بعض الخطوات في هذا الإطار، كما في مقايضة كمّيات من الأسمدة اللازمة للأغراض الزراعية بمنتجات زراعية سورية أو كمّيات من الفوسفات، فضلاً عن توجّه دول أخرى للعمل بذلك النظام. ويعيد التفكير بهذه الاستراتيجية، إلى الأذهان، القرار الأممي الصادر في تسعينيات القرن الماضي، والذي سمح للعراق المحاصَر آنذاك بتصدير كمّيات محدَّدة من النفط مقابل حصوله على الغذاء لشعبه، وهو ما تحاول سوريا أن تفعله اليوم، ولكن بشكل معاكس وأكثر شمولية. فهي من جهة، سوف تُصدّر الغذاء مقابل حصولها على بعض السلع الضرورية غير المنتجة محلياً، والتي تعرقل تأثيرات العقوبات الغربية وصولها إلى البلاد، فيما لا يُستبعد أن يكون النفط ومشتقّاته جزءاً من السلع المراد المقايضة عليها. ومن جهة ثانية، فإن المعادلة السورية تقتضي أحياناً تصدير الغذاء للحصول على الغذاء أيضاً.
المستوردات ثابتة والحاجة تزداد
لجأت دمشق، منذ عدّة سنوات، وفي محاولة منها لضبط سعر صرف عملتها، إلى تطبيق مجموعة إجراءات، كان من بينها اعتماد سياسة لترشيد المستوردات، قوامها حصر هذه الأخيرة بالسلع والمواد الأساسية كالغذاء، والدواء، والمواد الأوّلية اللازمة للصناعة والزراعة، وكذلك تشجيع الإنتاج المحلّي لبعض السلع المستوردة بغية الاستغناء عن استيرادها. وقد أسهمت الإجراءات المُشار إليها، بالفعل، في ضبط قيمة المستوردات السورية لتستقرّ خلال العامَين الأخيرَين عند حوالي 4.2 مليارات يورو، بعدما كانت في عام 2018 قد تجاوزت 6.3 مليارات يورو. لكن في المقابل، ثمّة من يُحمّل تلك السياسة مسؤولية حدوث نقص في كمّيات السلع المطروحة للاستهلاك، الأمر الذي أدّى، بحسب هذا الرأي، إلى توسّع دائرة الاحتكار والمضاربات والغلاء، والأخطر تشجيع عمليات التهريب. لكن عدم توفّر بيانات دقيقة لكمّيات الاستهلاك الفعلية من معظم السلع، المنتَجة محلّياً أو المستوردة، وما هو مطلوب لإحداث استقرار وتوازن سعري، يجعل من الصعب تبنّي تقييم نهائي لمدى صوابية السياسة التي اعتمدتها دمشق والانتقادات المُوجَّهة إليها.
لجأت دمشق، منذ عدّة سنوات، وفي محاولة منها لضبط سعر صرف عملتها، إلى تطبيق مجموعة إجراءات


في ملفّ المشتقّات النفطية، تبدو الأمور أكثر وضوحاً؛ إذ إن الكمّيات المتاحة للاستهلاك المحلّي أقلّ بكثير من الاحتياجات، بدليل عدم كفاية مخصّصات جميع القطاعات، واضطرار هذه الأخيرة إلى اللجوء إلى السوق السوداء لسدّ جزء من فجوة استهلاكها، إضافة إلى أن البيانات الحكومية تتحدّث صراحة عن وجود فجوة في هذا المجال منذ خروج حقول النفط عن سيطرة الحكومة. فمثلاً، تُقدَّر حاجة البلاد بما لا يقلّ عن 7.5 ملايين ليتر مازوت يومياً، فيما المتاح فعلياً لا يتجاوز في أحسن الأحوال 5.5 ملايين ليتر، والأمر نفسه ينسحب على البنزين والغاز المنزلي وغيرهما. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الفجوة المذكورة لا تفتأ تتعمّق مع مرور الوقت، متأثّرةً بارتفاع بعض مستويات الطلب المحلّي، وخاصة في ظلّ محاولات إنعاش القطاع الإنتاجي، وإعادة إصلاح وتأهيل بعض البنى التحتية والمرافق الخدمية. وعلى سبيل المثال هنا، فإن إعادة استثمار بعض المساحات الزراعية تعني ارتفاع احتياجات القطاع الزراعي من المازوت والأسمدة وغيرهما من مستلزمات الزراعة. كما أن محاولة تشجيع الصناعيين والمنتجين على إقامة صناعات بديلة للمستوردات، تعني الحاجة إلى مزيد من المواد الأولية وقطع التبديل وحوامل الطاقة.
وعليه، فإن سعي الحكومة لضبط مستوردات البلاد عند رقم معيّن لا يأخذ في الاعتبار تقلّبات احتياجات السوق المحلّية، من شأنه أن يسهم في تقييد العملية الإنتاجية، وإحداث خلل في جانب العرض يؤدّي بدوره إلى مزيد من الاحتكار والغلاء. ومن هنا، كان التفكير الحكومي باللجوء إلى أسلوب المقايضة، للهروب من عقبة عدم توفّر القطع اللازم لتوسيع دائرة المستوردات.

النسخة السورية المعدَّلة
تأخذ النسخة السورية من اتّفاق العراق المسمّى «النفط مقابل الغذاء»، في الاعتبار عاملَين أساسيَّيْن: الأوّل، أن الدول التي يمكن أن تشكّل طرفاً ناجحاً في عملية المقايضة، ينبغي أن تكون محتاجةً إلى ما يتوفّر لدى سوريا من سلع فائضة أو متاحة للتصدير، وفي الوقت نفسه قادرة على توفير ما يحتاجإليه السوريون في المقابل من سلع ومواد؛ وفي هذا الإطار، تركّز دمشق اهتمامها حالياً على بعض الدول العربية والصديقة. أمّا العامل الثاني، فيتعلّق بالسلع المتوفّرة لدى سوريا، والتي يمكنها أن تقايض عليها، وفي مقدّمتها المحاصيل الزراعية التي تشكّل ورقة هامّة بيد دمشق في أيّ مفاوضات مستقبلية بالخصوص. لكن هل سيكون ذلك على حساب السوق والمستهلك المحلّيَّيْن؟ أم سيجري تنظيم إعادة انتشار للصادرات الزراعية الحالية بحيث تتوجّه نحو الدول المراد التعاون معها؟
تتّفق غالبية الآراء على أن الخيار الثاني هو المرشّح للتنفيذ، وخاصة أن إجمالي الكميات المصدَّرة من المنتَجات الزراعية (خُضر وفواكه) - باستثناء المواد الغذائية المصنَّعة ومستلزمات الإنتاج مِن مِثل الشتول والبذور والمبيدات والأسمدة الحيوية والعضوية -، وصل حجمها العام الماضي إلى حوالي 400 ألف طن. وبحسب ما يفيد به غياث شماع، رئيس مجموعة «دلتا» للاقتصاد والأعمال، فإن «المنتَجات الزراعية السورية تصل إلى أكثر من 20 دولة في العالم، وتُحقّق نسبة اختراق وتنافسية جيدة في أسواق دول الخليج، الأردن، العراق، مصر، وغيرها، حيث تمثّل ما بين 80 و90% من إجمالي الصادرات الزراعية إلى الدول المذكورة، في حين تشكّل نسبتها إلى الدول الأخرى مِن مِثل روسيا، إيران، الصين، قبرص، فنزويلا، رومانيا، حوالي 10%». ويضيف شماع، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «الكمّيات المصدَّرة من الخُضر تشكّل من إجمالي الصادرات الزراعية حوالي 58%، ومن أهمّها البطاطا، البندورة، الفليفلة، الباذنجان، وغيرها، في حين تمثّل الكمّيات المصدَّرة من الفواكه حوالي 42%، ومن أهمّها الحمضيات، التفاح، والمشمش وغيرها. وتُضاف إلى تلك القائمة، الكميات المصدَّرة من المواد الغذائية التي تعتمد على المواد الأوّلية الزراعية كدبس البندورة، الذي صُدّر منه حوالي 2254 طنّاً في العام الماضي، إلى جانب حوالي 900 طنّ من الفواكه المجفّفة، وحوالي 1500 طنّ من النباتات العطرية والطبّية المجفّفة».
لكنّ النتائج تبقى أسيرة الإجراءات الحكومية، ومدى قدرتها على تحقيق موازنة عادلة بين ضمان حصول الأسواق المحلّية على احتياجاتها من السلع الزراعية، وبين التعامل مع الفائض واستثماره تصديرياً بما يؤمّن للبلاد سدّ احتياجاتها من سلع أخرى. وفي هذا السياق، لا يستبعد محمد كشتو، رئيس «اتحاد غرف الزراعة»، إمكانية حدوث بعض الإرباك بدايةً، لكنه يجزم أن السوق سوف يعاود موازنة نفسه من جديد، وبما يخدم المستهلكين والمزارعين معاً. ويضيف كشتو، في تصريح إلى «الأخبار»، أنه «مع فتح باب التصدير لجميع السلع الزراعية، فهذا الإجراء من شأنه إنعاش إنتاجيّة القطاع الزراعي، بما يلبّي احتياجات جميع المستهلكين المحلّيين والخارجيين، وخصوصاً أن الخسائر التي يتعرّض لها المزارعون سنوياً تخرج بعضهم من السوق وتدفع آخرين إلى مزاولة مهن أخرى».