تعرض باريس تسوية رئاسية - حكومية تنزل على الجميع من فوق: رئيس جمهورية من قوى 8 آذار، ورئيس حكومة قريب افتراضياً من 14 آذار. وتعرض قطر والسعودية تسوية مناقضة تتعلق بانتخاب رئيس والمجيء برئيس حكومة ووزراء من خارج الاصطفافات السياسية. بين التسويتين، يمكن التوقف عند دور النواب المنتخبين، ودور مجلس النواب في كل ما يحصل، ودور النواب داخل الكتل النيابية.خارج اليوميات الرئاسية، وآليات الحوار الإقليمي، يدور نقاش سياسي في أوساط سياسية وأكاديمية حول المغزى من إجراء الانتخابات النيابية في لبنان، وجدوى استنهاض القوى السياسية لقواعدها، وصرف الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي الأموال لإجرائها ومراقبة نزاهتها. فيما تقوم القيامة في كل مرة يمدّد فيها للمجلس النيابي ولا تجرى الانتخابات في موعدها. فبين دور المجلس التشريعي ودور النواب في تركيبة السلطة، من انتخاب رئيس للجمهورية واختيار رئيس للحكومة، ينتفي دور المجلس ونوابه الـ 128، حين يبدأ الحديث عند كل أزمة حول تسويات تفرض على القوى السياسية، فيبصم نوابها عليها. هذا ما حصل في كل المحطات السياسية، ويتكرر اليوم مع دخول عواصم عربية وغربية على خط صياغة تسوية لا تأخذ في الحسبان أيّ دور إيجابي أو سلبي للنواب المنتخبين.
يدور النقاش حول مسألتين، تتعلّق الأولى بالمشهد الديموقراطي للحياة السياسية. وإذا كانت الحكومة المستقيلة تتصرّف وكأنّ وجود رئيس الجمهورية لم يعد من الضروريات، فإن أداء العواصم في صياغة التسويات، مقروناً بأداء رؤساء الكتل النيابية، يُفقد النواب دورهم. وحين تناقش بنود التسويات والتوضيحات المتعلقة برئيس الحكومة والصلاحيات الاستثنائية والطائف والاستراتيجية الدفاعية خارج مجلس النواب، فهذا يعني إلغاءً لدور المجلس بعد إلغاء دور رئاسة الجمهورية. وإذا كانت قطر والسعودية تتعاطيان مع الفكرة الديموقراطية للحياة السياسية بنظرة مختلفة، فإن المفارقة هي في تعاطي باريس مع مقترحاتها من فوق، بما لا يمكن أن تفرضه في أي ملف فرنسي داخلي. وما يحصل في شوارعها دليل على ذلك. إذ إن مقاربتها لتسوية خارج إطار البرلمان، تعكس تعارضاً صارخاً مع المفاهيم التي تتحدث عنها ثقافتها السياسية. إلا إذا كانت تحذو حذو نماذج إقليمية في صياغة مشاريع تسووية من دون العودة الى القاعدة النيابية، مع الافتراض أيضاً أنها تتعاطى مع تركيبة باتت تجنح نحو اختزال الحياة السياسية بقيادات محدّدة تغيّب قصداً دور النواب.
وهنا يُفتح النقاش الثاني الذي يتعلق بحجم الاصطفاف الحادّ داخل الكتل النيابية بذاتها. إذ يتحوّل النواب «بلوكّات» نيابية تخضع لإمرة رؤساء الكتل من دون أي حوار، ولا أي معارضة أو نقاش حيوي. ليس مشهد الثنائي الشيعي وحده مثالاً حيّاً عن التزام القرار الحزبي، لأن النقاشات الداخلية مغلقة، بل يتعدّى ذلك الى الكتل المسيحية، وتحديداً القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. وكلتا الكتلتين تعانيان على أكثر من مستوى. فالقوات اللبنانية تمسك بقرار نوابها من دون أيّ تفاعل وحوار مفتوح على احتمالات سياسية متعددة الاتجاهات. فليس جميع نواب القوات، مثلاً، موافقين على قبول رئيس الحزب سمير جعجع بتعيين الحكومة حاكماً لمصرف لبنان، لأن القوات شاركت في الحملة السياسية لضرورة تقيّد الحكومة بمستلزمات الاجتماع لقضايا طارئة. فكيف يمكن حالياً تفسير القبول بتعيين بديل لحاكم مصرف لبنان، عدا عن العلاقة «الجيدة» مع رئيس الحكومة. والأمثلة كثيرة لدى القوات في إمساك رئيس الحزب بقرار الكتلة بما هو أبعد من القرار «الاستراتيجي» السياسي الذين ينضوي تحته نواب القوات. وللتذكير، فإنّ النائبين إدمون رزق ولويس أبو شرف قدّما استقالتهما من الكتائب اعتراضاً على التسوية التي رعاها الرئيس أمين الجميل بانتخاب الرئيس حسين الحسيني بدلاً من الرئيس كامل الأسعد عام 1984.
أداء العواصم في صياغة التسويات، مقروناً بأداء رؤساء الكتل النيابية، يُفقد النواب دورهم


ولدى التيار الوطني الحر مقاربة مماثلة، تجعل من الصعب على النواب الاتفاق على مقاربة موحّدة لمختلف الملفات السياسية. وإذا كانت الخلافات قد أصبحت معروفة بين نواب لبنان القوي، فإن تموضعهم خلف قرار رئيس الحزب النائب جبران باسيل أصبح من المسلّمات التي تجعل من المتعذّر على أيٍّ منهم البوح علانية بما يقال في الاجتماعات المغلقة عن رفض لمسار باسيل في خوض معركة الرئاسيات، والتي كان يمكن أن تعدّل مسار المشهد الرئاسي في حال ترجم النواب المعترضون كلامهم على الورق، لولا الحضور المستمر للرئيس ميشال عون.
والمشهد نفسه ينسحب على مختلف الكتل السياسية بحيث يفقد النواب ما عدا اثنين أو ثلاثة على الأكثر بينهم، آليّة التعبير عن آرائهم خارج القرار الحزبي، حتى في ملفات ومواضيع تفصيلية. وهي ظاهرة لم تحصل حتى في عز الوجود السوري في لبنان، حين كان يشهد المجلس نقاشات حيوية بين الموالين لسوريا والمعارضين لها ومن اتجاهات مختلفة. والعودة الى دور النواب في كتلهم وفي المجلس النيابي، يفترض أن تكون عاملاً صحياً. يكفي أن رئيس المجلس يضع يده على المجلس النيابي، وأحياناً على السلطة التنفيذية، حتى يأتي النواب المنتخبون ليكرّسوا واقعة أن الانتخابات النيابية مجرّد رقم في حسابات رؤساء الكتل الحزبية، الأمر الذي يجعل من باريس أو السعودية أو قطر تتعاطى معهم على أنهم أرقام كذلك.