ما بين قرص العَنّة والخِبَّيْزة والحمّيضة، مروراً بالصعتر والدَّرْدَر والمِشّي، ووصولاً إلى نبتة العكّوب التي تُعتبر الأهم، يمضي أسامة محمود ما يقارب الست ساعات يومياً متجوّلاً في مساحات الباروك الخضراء في قضاء الشوف.يحفظ محمود جيداً مهنته التي يمارسها على مدار العام بحسب مواسم الأعشاب البرية، والتي تكاد تصبح عمله الأساسي اليوم في ظلّ الظروف التي فرضتها الأزمة الاقتصادية المستجدّة وقبلها جائحة كورونا.
في عام 2020 ومع إجراءات الإقفال التي رافقت كورونا والتي طاولت فرن الخبز الذي كان يعتاش منه، بدأ محمود مهنة «السليقة» ممارساً لا هاوياً، يقصد الحقول منذ الصباح قبل أن يعود إلى منزله مع انتصاف النهار لغسل الغلّة وتوضيبها في أكياس تمهيداً لبيعها للدكاكين المحلية.
هكذا، أصبحت الأعشاب البرية مهنته التي يتدبّر من خلالها معيشته، وإن كانت اليوم لا تدرّ أرباحاً كما في السابق، عندما كان مردود هذه الأعشاب أعلى من الخُضر الزراعية. أما اليوم، فهي «آخذة بالتراجع، إذ أجني ما يقارب الـ15 كيلوغراماً من العكوب يومياً، وعلى الرغم من أنني أبيع الكيلو الواحد بـ100 ألف ليرة لبنانية، إلا أن الربح لا يتعدّى الـ500 ألف بسبب كلفة الوقود العالية، كوني أقوم بالتوزيع شخصياً على المحالّ التجارية». مع ذلك، ليست الأكلاف التي فرضتها الأزمة الخانقة هي السبب فقط في الأرباح الضئيلة، إذ يشكو محمود وغيره من تضاؤل كمية تلك الأعشاب في الحقول بسبب التغيرات المناخية في السنوات الأخيرة. ويذكر على سبيل المثال أن كمية العكّوب تراجعت كثيراً، فيقول إنه «سابقاً عندما كانت الثلوج تغطي الجبال حتى منتصف شهر آذار، كنت أقطف العكّوب من محيط منزلي الذي يقع على ارتفاع 1050 متراً عن سطح البحر، أما اليوم فقد اختفى العكوب من هنا بسبب ارتفاع حرارة الأرض لأيام طويلة خلال العام».

الحلّ بتشريعات قانونية تحدّد مواعيد القطف كما هو الحال مع الصعتر والقصعين (أرشيف ــ بلال جاويش)

وهذه الحال يلاحظها الكثير من ممارسي مهنة «السليقة»، فيشيرون إلى تضاؤل الكميات عمّا سبق، وهو أيضاً ما لحظته دراسة قامت بها مجموعة من الباحثين في جامعة بيروت العربية، بالتعاون مع محمية أرز الشوف الطبيعية حول الأعشاب البرية والتي نُشرت مطلع العام الجاري. وقد خرجت تلك الدراسة بخلاصتين أساسيتين: أولاهما أن لبنان يمتلك 158 نوعاً فريداً من الأعشاب البرية القابلة للاستهلاك، وهو ما لم يكن مُحصًى من قبل، وثانيتهما أن خمسة أنواع مهمة تواجه اليوم خطر الانقراض بسبب التغيّرات المناخية، كما الجني العشوائي لها.

نباتات على «القائمة الحمراء»
ما بين آذار 2014 وأيلول 2019، أجرى فريق الدراسة مقابلات ميدانية مع 151 شخصاً (من جامعي وبائعي الأعشاب ومزارعين ورعاة ماشية وأفراد المجتمع التقليديين) من 21 بلدة وقرية لبنانية تمثّل مختلف النطاقات المناخية/ الجغرافية/ الحيوية في لبنان. وعلى مدى تلك السنوات من عمر الدراسة، تمّ جمع معلومات عن أسماء الأعشاب، ومدى توافرها، وطريقة تحضيرها، وسلامة استهلاكها، إضافة إلى عيّنات من كلّ عشبة لتحديد تصنيفها النباتي.
وقد خلصت الدراسة إلى غنى لبنان بالأعشاب البرية مع إحصاء 158 نوعاً تحويها مناطقه.
ومن بين الأنواع التي تم التعرّف إليها، تبيّن أنّ 5 منها مدرجة على «القائمة الحمراء» للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN): اثنان منها مهدّدان بالانقراض وهما: دَبَح المَكْمَل (Gelasia mackmeliana) ودَبَح لُبْناني (Pseudopodospermum libanoticum)، و3 معرّضة للخطر هي: الصعتر البرّي (Origanum ehrenbergii)، والكوزِنْيَة اللبنانية (Cousinia libanotica)، واليَعْضيض اللبناني(Leontodon libanoticus)، وجميعها نباتات مستوطنة في لبنان وسوريا حصراً.
لا تقتصر أهمية النباتات المهدّدة على قيمتها الغذائية، وإنّما لأنها تُعدّ ثروة جينية مهمة


وبحسب الدكتورة صفاء بيضون، مديرة مركز أبحاث البيئة والتنمية في جامعة بيروت العربية، وأحد المشاركين الأساسيين في هذه الدراسة، يكمن الخطر اليوم في أن هذه الأنواع النباتية لا تقتصر أهميتها على قيمتها الغذائية العالية، وإنما باعتبارها «ثروة جينية» مهمة. وبحسب بيضون، «هذه النباتات هي الأصول الوراثية البرية للنباتات المزروعة حالياً، وبالتالي فإن وجودها ضروري لحماية التنوع النباتي، لأنه كلما زاد التنوع البيولوجي، زادت قدرة النباتات على تحمّل المخاطر البيئية والمناخية، ولا سيما أن الأعشاب البرية تمتلك مواصفات جينية تمكّنها من تحمّل الظروف البيئية القاسية».

طرق الحماية: التشريعات والتهجين
لا طرق لحماية تلك الثروة، التي ينفرد بها لبنان، من الضمور، إلا العمل على «إعداد تشريعاتٍ تحدّ من الجني العشوائي للنباتات المعرّضة اليوم للخطر، على غرار قرار وزارة الزراعة لحماية الصعتر والقصعين والصادر عام 2012» تقول بيضون. وقد حصر هذا القرار الجني التجاري للصعتر (Origanum syriacum) والقصعين بالفترة الممتدّة ما بين شهري حزيران وتشرين الأول، شرط الحصول على ترخيص مسبق من مصلحة الأحراج والثروة الطبيعية في الوزارة، واحترام شروط الجني المستدام، بما فيها جني ثلثي النبتة فقط، ومنع اقتلاعها من الجذور. لكن كغيره من التشريعات، تبقى العبرة في التطبيق.
وأبعد من مجرّد الحفاظ على هذه الأعشاب، تنظّم محمية أرز الشوف الطبيعية حملات لتهجين تلك النباتات ونقلها من البرية إلى الأراضي الزراعية، بهدف الاستفادة من إنتاجها في إطار تنموي اقتصادي. وفي هذا السياق، يخبرنا مدير المحمية، نزار هاني، عن المشروع الذي أطلقته المحمية لتهجين نبتة العكّوب، حيث «نعمل مع الحدائق النباتية الملكية البريطانية في كيو منذ سنتين، وقد تمكنّا من تطوير بروتوكول زراعي يمكّننا من إنبات بذرة العكّوب في المشاتل في عام واحد، وهي التي كانت تحتاج إلى سنتين أو ثلاث لتنبت في البريّة بشكل طبيعي». ويضيف: «تمكنّا هذا العام من إنبات ألفي نبتة في المشاتل على ارتفاعَين مختلفين، ونعمل على زيادة هذه الكمية في السنوات القادمة».