قد لا يجد المرء رابطاً مباشراً بين حرب السودان التي انفجرت على نحو مفاجئ وعنيف وواسع، وبين ما سبقها من خطوات انفتاحية وتصالحية جمعت الكثير من خصوم الأمس في الشرق الأوسط، في اتّجاه تفكيك أزمات كبيرة بينها حرب اليمن، والعلاقات السعودية - الإيرانية، وسوريا والعراق، وغيرها. ومع ذلك، يمكن الحديث عن علاقة طردية بين تلك الأحداث جميعاً، لأنها تدور في منطقة واحدة تشهد تحوّلات كبيرة ربّما تنعكس خللاً في الميزان الاستراتيجي القائم. منذ أَدخل ضبّاط السودان بلادهم في العصر الإسرائيلي، بالانضمام إلى «اتّفاقات أبراهام» للتطبيع مع العدو، حتى قبل أن تستتبّ الأوضاع فيها بعد الإطاحة بعمر البشير، حكموا عليها بالحرب الأهلية. حربٌ تنطبق عليها الوصفة الإسرائيلية لِما يُراد لكلّ الدول العربية أن تنزلق إليه؛ ولذا، فهي مكسب إسرائيلي، في الوقت الذي تبدي فيه تل أبيب خشيتها ممّا يدور حولها، وخاصة الانقلاب الحاصل في السياسة السعودية. هذا القلق لم تترك إسرائيل فرصة إلّا وعبّرت عنه، وخاصة أن الكيان نفسه يعيش صراعاً ضارياً بين المتديّنين والعلمانيين، يبدو تفاقمه ناجماً عن أزمة إسرائيلية في تصدير الاحتقانات الداخلية إلى الخارج، نتيجة ضيق الخيارات إزاء التقاربات الحاصلة، والتي فشلت المحاولة الإسرائيلية لتخريبها من خلال تكثيف القصف على سوريا، بعد إطلاق الصواريخ من لبنان وغزة والجولان. وبغضّ النظر عن المدى الذي يمكن أن يصل إليه الاتفاق السعودي - الإيراني، وآثاره على العلاقات السعودية - الأميركية، ولا سيما أنه يُفترض به تعزيز الحضور الصيني في قضايا الشرق الأوسط، إلّا أن الثابت في كلّ ما يجري هو أن إسرائيل التي تعتمد في قوّتها أساساً على ميزان قوى عالمي كان دائماً في مصلحتها منذ بداية القرن الماضي، هي الأكثر حيرة في قراءة تلك التغييرات وما سيكون لها من تداعيات على مستقبل الدولة. هذا على الأقلّ ما يوحي به ما خلص إليه «مركز القدس للشؤون العامة» الإسرائيلي، والذي أكّد، في تقرير نُشر في الأيام القليلة الماضية، أن استئناف العلاقات السعودية - الإيرانية مثير للقلق الذي لا يبدّده إلّا انهيار ذلك الاتفاق بفعل الخلافات العميقة بين البلدَين، كما تأمل تل أبيب. وتَنظر الطبقة السياسية في إسرئيل إلى التفاهم من زاوية أنه يحصل بين دولة تتزعّم العالم السني وأخرى العالم الشيعي، بما يعني التخفيف من حدّة النزاعات التي تَحرف الصراع عن كونه قتالاً ضدّ الاحتلال، إلى صراع مِلل بين أهل المنطقة. وتقدّر هذه الطبقة أن السعودية اتّخذت خطوتها الأخيرة لسببَين رئيسَين: الأوّل هو الرغبة في وضع حدّ لحرب اليمن المستمرّة منذ عام 2015، والثاني هو تراجع الانشغال الأميركي بالشرق الأوسط، والذي حدا بوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى الاستنتاج بأن الولايات المتحدة لن تدافع عن السعودية في حال تعرّضها لهجوم إيراني.
بدأت تتجمّع مؤشّرات إلى مجهود تبذله واشنطن لتخريب الاتفاق


ويلحظ المركز الإسرائيلي أن السعودية أرسلت أخيراً رسائل إلى الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل تشرح التغييرات الاستراتيجية التي قرّرها ولي العهد. ففي 17 نيسان الجاري، نشر الكاتب بدر الخريف مقالاً في صحيفة «الشرق الأوسط» عنوانه «محمد بن سلمان أمير الشرق وأمل الأمة وباني الدولة الفاضلة». ويرجّح المركز أن ابن سلمان نفسه أمْلى على الخريف ما كتبه وتضمّن الآتي: «عالج الأمير محمد بن سلمان... قضايا شائكة لعلّ أهمها موضوع الجارة (إيران)، التي شكّلت خلال عقود خطراً على السعودية ودول الخليج ودول عربية أخرى، مقتنعاً بأن الحلّ السياسي عبر الحوار هو الحلّ، وأن دولة مثل إيران لها تاريخ وحضارة قديمة لا يمكن أن يُحلّ الخلاف معها بالمواجهات المباشرة عسكرياً... ولم يلتفت الأمير إلى التهديدات الأميركية والإسرائيلية بضرب إيران، مقتنعاً أيضاً بأن هذا يُعدّ ابتزازاً سياسياً وبعبعاً طُرح منذ عقود، ولم تَظهر مؤشرات على مصداقيّته إلى اليوم. كما نجح الأمير في إعادة سوريا إلى حضنها العربي وقَبلها العراق». وإذا كان رهان إسرائيل المعلَن هو على انفجار الاتفاق بين السعودية وإيران، باعتبار أنه «من المستحيل جَسر الخلافات الدينية والعقائدية بين السنة والشيعة»، كما يَجري ترويجه إسرائيلياً، فإن الأكيد أن تل أبيب لا تستطيع تقويض الاتفاق وحدها، بل هي تحتاج إلى توريط واشنطن من خلال تعميق انشغالها بالشرق الأوسط، على عكس السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة في السنوات الماضية. على أن الموقف الأميركي من الاتفاق السعودي - الإيراني لم يكن واضحاً تماماً عند إعلان التفاهم في العاشر من آذار الماضي، على رغم التحليلات التي ملأت الصحافة الأميركية وأفادت بأن «إعلان بكين» يمثّل تراجعاً للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط لمصلحة الصين. لكنّ مؤشّرات بدأت تتجمّع إلى مجهود تبذله واشنطن أيضاً لتخريب الاتفاق؛ إذ أرسلت الولايات المتحدة رئيس استخباراتها، وليام بيرنز، إلى ابن سلمان، للإعراب عن القلق من التقارب السعودي - الإيراني، وتداعياته على الشرق الأوسط، بحسب تقرير المركز الإسرائيلي نفسه. كما أفاد موقع «ذي إنترسبت» الأميركي بأن وثائق البنتاغون المسرّبة كشفت قلق واشنطن من استعداد الرياض للتخلّي عن وكلائها في اليمن من أجل إنهاء الحرب هناك، على اعتبار أن أيّ نهاية للحرب من دون ترتيبات أميركية لن تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة. وتمثّلت محاولة التخريب في اليمن في تعزيز نشاط الفصائل المقاتلة في المحافظات الجنوبية التي تقع تحت السيطرة الإماراتية. وبالتوازي، هرع المبعوث الأميركي الخاص إلى اليمن، تيموثي ليندركينغ، إلى الرياض في 11 نيسان، مع بروز مؤشّرات إلى قرب إعلان اتّفاق سلام مزمع، لتذكير السعوديين برغبة واشنطن في الاستمرار بدعم وكلائهم في هذا البلد.
أمّا الزيارة الأهمّ للرياض، فكانت قبل أسبوعَين للسناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، الذي كان أحد أشدّ منتقدي السعودية وابن سلمان بالتحديد، حيث اجتمع بوليّ العهد ثمّ انتقل إلى إسرائيل. والسناتور الذي جاء مكلَّفاً من الرئيس جو بايدن، على حدّ قوله، هو الذي عاير السعوديين في عام 2018 بأنه «لولا الولايات المتحدة لتحدّثت السعودية الفارسية خلال أسبوع»، وهو الذي وصف ابن سلمان بأنه «قوّة مدمرة في الشرق الأوسط». على أنه خلال الزيارة، انقلبت لهجة غراهام تماماً، إذ قال في مقابلة مع قناة «العربية» إنه يدعم «بقوّة توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين السعودية وأميركا»، وتعهّد بالعمل «على مساعدة السعودية في ما تحتاج إليه لبناء برنامج سلمي للطاقة النووية»، وهذان هما المطلبان الأساسيان لدى الرياض للعودة إلى الانضواء الكامل في التحالف الأميركي، وفق ما سُرّب إلى الصحف عن المناقشات التي أجرتها وفود أميركية كثيرة زارت المملكة في الأشهر الماضية. إلّا أن ذلك يبقى كلاماً، على اعتبار أن أي تورّط أميركي في الدفاع عن السعودية لا يحظى بأيّ شعبية بين الأميركيين، وبالتالي لن يجرؤ أيّ رئيس على الالتزام به. ولذا، يبقى نجاح محاولة تقويض الاتفاق السعودي - الإيراني، مرهوناً باقتناع السعوديين بالمحاولة الأميركية الجديدة لبيعهم الأوهام ذاتها. لكن تلك المحاولة تأتي فيما مصداقية واشنطن بين حلفائها المفترَضين في المنطقة صارت، منذ زمن، تساوي صفراً.