الشيء الوحيد الذي يبقى معنا عند انتهائنا من فيلم «هردبشت» هو الضجيج والصراخ والصفعات والألم التي لا تعني شيئاً. نخرج من الفيلم بضوضاء كنا في غنى عنها، ومبالغة لا تعوّض عن الأشياء المفقودة. الفيلم الأول لمحمد دايخ اسم على مسمى، «هردبشت» كلمة تعني الإنسان الذي ينتمي إلى بيئة اجتماعية تمتلئ بالموبوءات. هكذا تعامل دايخ مع الفيلم، لم يكترث بما بين يديه، أو في أسوأ الأحوال لا يعلم بالوسيط الذي يستعمله. هناك فرق كبير بين التلفزيون والسينما، وبين البساطة السينمائية والفراغ على الشاشة وبين الواقعية السينمائية، والواقع الحقيقي. الفيلم وهمي وباطل ومدّع ومزيف، بقصة ضعيفة وكذلك الشخصيات ودوافعها. فيلم يحاول جاهداً أن يكون شيئاً، لكن من دون جدوى.تدور قصة «هردبشت» حول ثلاثة أشقاء يعيشون مع والدتهم أم حسين (رندة كعدي) في منطقة الأوزاعي في ضاحية بيروت الجنوبية. حسين (حسين قاووق) وأبو الفضل (حسين دايخ) يروّجان المخدرات، ويمارسان الأعمال الخارجة على القانون، في منطقة غارقة في الفقر والإهمال، ومتروكة لمختلف أشكال الممارسات والبلطجة في غياب الدولة. لحسين وأبو الفضل شقيق يُدعى حمودي (محمد عبدو) هو الشقيق الأصغر والمتديّن والمستغل من قبل أشقائه. يتعامل الأشقاء مع طلال (غبريال يمّين) تاجر الخردة وزعيم تجارة المخدرات في المنطقة، ولحسين صديق يدعى طانيوس (فؤاد يمين) لديه محل لتصليح الدراجات النارية. جارة العائلة هي زكية (ألكسندرا قهوجي)، الجميلة التي يرغب بها كل شباب المنطقة والتي تعيش مع زوجها علي (حسين حجازي). كما تظهر في المنطقة سعاد (ماريا ناكوزي) المتديّنة التي تحاول التقرّب من حمودي لأسباب نعرفها لاحقاً. تبدأ المشكلات الحقيقية للعائلة والأشقاء مع الحادث الذي يتعرّض له حمودي على يد الدركي رواد (جوزف زيتوني)، الذي يجرّ مشكلات أكبر وعنفاً وفوضى لا تنتهي.
الفيلم مدّع ومزيف، بقصة ضعيفة وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشخصيات ودوافعها


قصة الفيلم هذه، كما قيل، تنبع من الواقع المعاش في هذه المنطقة من بيروت. لعلّها المرة الأولى التي نرى فيها هذا الواقع ينعكس في فيلم روائي بعد العديد من الأفلام الوثائقية عن هذه المناطق. وهذا يضع مسؤولية كبيرة على المخرج بسبب الوضع الاجتماعي والأمني والثقافي لهذه المنطقة، الذي يعرفه المخرج جيداً على حد تعبيره. لكن كل شيء في الفيلم بدا مبالغاً فيه، بدءاً من الحوارات والأحداث وصولاً إلى الإخراج. حاول دايخ أن يخرج بفيلم واقعي، لكن انتهى به الأمر بفيلم شكلي، ويعود هذا بشكل كبير إلى عدم قدرته على التعامل مع الوسيط السينمائي. هناك اختلاف بين الشاشة الصغيرة والكبيرة، وللأخيرة خصائص تفضح من لا يعرف التعامل معها. «هردبشت» لا يناسب كبر الشاشة التي يُعرض عليها. مفضوح هو الفيلم، ما رأيناه هو مجموعة من المشاهد غير المتصلة، مفككة على شكل «اسكتشات» درامية تتخلّلها بعض المواقف الفكاهية غير المقصودة التي ظهرت بسبب المبالغة في التمثيل والحركات والحوارات التي لم تعط مجالاً لأي شيء آخر. لم يعرف المخرج كيفية التعامل مع السينما، ففيلمه عبارة عن قصة ومشاهد يحدث فيها الكثير، لكنّها تظل فارغة بسبب كثرة الحجج التي يعطيها المخرج لشخصياته لشرح مواقفها، فجاء كل شيء واضحاً بلا عمق ولا حتى تطوّر. للسينما سحر مفقود في الفيلم، كل شيء مشروح وما نراه رؤوس على مستوى الكاميرا تتحدث وتتفاعل بشكل هستيري وتصرخ وتصفع بعضها البعض بلا داع. الشخصيات هي نفسها من أول الفيلم إلى آخره. وعلى الرغم من كثرة الأحداث والمصائب التي تحدث لها، لم نر أبداً أيّ تغير ملحوظ في التعامل مع المواقف.

محمد عبدو في الفيلم

الفيلم عبارة عن مشكلات وعنف وقتل، وأيّ شيء آخر غير مهم. الأهم هو الواقع القاسي والمرير الذي يعيشه المواطنون في هذه المنطقة من دون أي محاولة من المخرج للتعامل معه. تعامل مع تعقيد الحياة اليومية في الأوزاعي ببساطة شديدة. لا نقول إن ما يحدث في الفيلم لا علاقة له بالواقع، لكن ما رأيناه أمامنا على الشاشة هو فقط محاولة مرغ هذا الواقع في وجوهنا من دون أي جرأة لمناقشته أو حتى قول أسبابه. للسينما الاجتماعية الواقعية التي يحاول المخرج وفريق العمل وضع الفيلم في خانتها، بعيدة عما شاهدناه، لا صراعات داخلية كبيرة للشخصيات، وإن وجدت فقد عُبر عنها بكلمات ركيكة، حتى إنّ هذه الصراعات إن وجدت، كانت واضحة من البداية، فلا حاجة لوضع كلمات عليها لشرحها. «هردبشت» ليس مرآة مشوهة للمجتمع، لأنه لا يظهر هذا المجتمع ولا يصوّره بشكل نقدي. كل ما يحدث هو ردة فعل أعنف من الفعل بلا سبب مقنع. قد لا يريد المخرج التعمق في كل هذا وتقديم قصة تحدث في هذه البقعة الجغرافية فقط، وهذا حق، ولكن ما يتحدث به ليس موجوداً في الفيلم. كنا نأمل أن نخرج بشيء من الفيلم، ولكننا خرجنا بفراغ يشبه الشريط. لم نر الأوزاعي، بدت كأنها ديكور للفيلم، فلا تفاصيل عن حياتها اليومية ولا أسباب مشكلاتها وواقعها الأمني. ما كان أمامنا فقط هو شخصيات وضعت في هذه المنطقة وتركت للتعامل مع كل شيء بالعنف. لم نصدق أي شيء، بدا كل شيء زائفاً. وضع المخرج نفسه وشخصياته في دوامة لا تنتهي إلا بالقتل والموت، وهذا استسهال. كما أنّ هناك حشواً بلا معنى مثل مشهد التظاهرة وإقفال الطرقات، وقصة عبودي وسعاد التي كانت خارج سياق كل شيء.
«هردبشت» هو باكورة محمد دايخ أراد فيها مع أصدقائه المعروفين ببرامجهم الكوميدية الناجحة إلى حد ما على الشاشة الصغيرة، الانتقال إلى السينما. لكن ما فعلوه هو دعسة ناقصة، فالفيلم ساذج، ركز على الفعل ونسي الفاعل، ملتزم تماماً بالعنف الذي يولّد العنف ولا يتطور، مفكك وغير منتظم. يفتقر الشريط إلى كل شيء، ولا يعطي شعوراً بأي شيء، بل يفتقد إلى الأفكار. وُسم الفيلم بالجريء، ولكن ما شاهدناه ليس جريئاً لأن دايخ أنهى كل شيء بفعل جبان كالقتل. راكم دايخ الأزمات الحقيقية فوق رؤوسنا، لكن واقعية هذه الأزمات تفرض بدورها طرحاً موضوعياً يرفع من شأن القضايا، بدلاً من تحويلها إلى فقرات صغيرة، ثم جمع هذه «الاستكشات» والخروج بشيء أسماه فيلم سينما.

«هردبشت» في الصالات