الحملة المركزة داخلياً التي يشنها معارضو ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية تعكس، من جهة، احتدام المعركة الداخلية، ومن جهة أخرى واقع التفاوض بين الدول المعنية بالملف. إذ إن كل اللاعبين في لبنان يتصرفون بواقعية إزاء الدور الخارجي، والجميع يعرف أن وصول رئيس إلى بعبدا من دون تسوية مع الإقليم والعالم، يبقي الأمور على حالها، وقد يوسّع دائرة الانهيار، خصوصاً على صعيد الدولة المركزية التي تسقط يومياً في كل الأمكنة، ولم تعد سطوة أو هيبة القوى الأمنية والعسكرية كافية لمنع الانفجارات المتفرقة بمعزل عما إذا كان عنوانها اجتماعياً أو طائفياً أو أمنياً.منذ الإعلان عن زيارة فرنجية إلى فرنسا، نشطت ماكينات كل الأطراف. لكن، بدا واضحاً أن القوات اللبنانية رفعت السقف إلى أعلى مما كان يتوقع الجميع، بإعلان رفضها الحازم وصول فرنجية أو من يشبهه إلى الرئاسة، وصولاً إلى التهديد بعصيان عليه وعدم الاعتراف به رئيساً في حال انتخابه. وهو موقف يلاقيه القوات فيه مسيحيون آخرون، ما قد يقود إلى توتر أكبر. وهذا ما يخشاه البطريرك الماروني بشارة الراعي أكثر من أي طرف آخر. فبكركي التي لا تقبل أن يُستغل الانقسام المسيحي لفرض مرشح لا يمثل غالبية شعبية مسيحية واضحة، تقرّ في الوقت نفسه بصعوبة توحيد المسيحيين على مرشح واحد، وترفض جرّها إلى موقف علني داعم أو رافض لهذا المرشح أو ذاك. وهي في الوقت نفسه شديدة القلق من المناخات المحيطة بمواقف القوات اللبنانية، ولا ينبع قلقها هذا من التجارب اللبنانية فقط، بل من تحذيرات شديدة تأتي من الفاتيكان تحذّر من انزلاق المسيحيين أو قوى بارزة بينهم إلى خيارات صدامية تؤثر في مستقبل وجودهم في لبنان.

حلفاء فرنجية مستمرون
وفيما أخفقت المحاولات التي قام بها رئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط لطرح مرشح تسوية، لم يطرأ تغيّر على موقف ثنائي أمل - حزب الله الداعم لترشيح فرنجية. وعلى رغم أن هناك من أبدى خشية من ترشيح الرئيس نبيه بري للرجل من دون تنسيق مع الحزب أو معه، ما ترك آثاراً سلبية على معركته الرئاسية، إلا أن رئيس المجلس حرص أخيراً على إبلاغ كل من يعنيهم الأمر بأنه لا يناور في دعمه لفرنجية، وهو تعهّد له ولحزب الله بذلك، كما بعث برسائل إلى دمشق حول الأمر نفسه. وفي هذه النقطة، يسعى بري إلى تبريد الأجواء مع القيادة السورية، ومحاولة رأب الصدع الكبير في علاقته بدمشق، بعدما لمس من الاتصالات واللقاءات التي أعقبت الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا استمرار الرئيس بشار الأسد في موقفه السلبي منه.
على رغم ذلك، لا تريد دمشق حشرها في الملف اللبناني بطريقة تعيد إلى الأذهان الدور الذي كانت تلعبه سابقاً، وهي تتريث حتى في إرسال أي مسؤول سوري إلى بيروت لئلا تتحول زيارته منصة لاستئناف الهجوم على سوريا. إلا أن هذا لا يلغي أن سوريا مهتمة جداً بالملف الرئاسي، وبوصول فرنجية إلى القصر الجمهوري، وستساعد في ذلك متى أتيح لها البحث به سواء مع السعودية أو مع غيرها. أما في ما يتعلق بالعلاقات مع القوى اللبنانية، فإن دمشق حريصة على توسيع دوائر التواصل، لكن ضمن إطار لا يخرج عن قرار الأسد بحصر ملف لبنان بيد قيادة حزب الله. وفي ما خص بري على وجه التحديد، فإن دمشق تعتبر أنه ارتكب خطأ تحول إلى مسألة شخصية لدى الأسد، عندما رفض إطلاق سراح هنيبعل القذافي وإعادته إلى سوريا التي منحته اللجوء بعد انهيار نظام والده في ليبيا. ويعتبر الأسد أن عدم تجاوب بري مع دعواته المباشرة ومع وساطات عواصم عربية ودولية، يمثل «طعنة» لا تزال تتحكم بموقف دمشق من العلاقة معه.

الحوارات مع الأجانب
وفي معطيات توردها مصادر معنية، فإن الرئيس بري حسم أمام مجموعة من الشخصيات بأن «معركتنا لإيصال فرنجية مستمرة ولن يكون فيها أي تعديل، وإذا كان هناك من عوائق فعلينا العمل داخلياً وخارجياً على إزالتها».
وينقل رواة حواراً بين رئيس المجلس والسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا بعد سؤالها عن سبب التمسك بترشيح فرنجية، إذ أجابها: «ما هي مشكلتكم أنتم معه. إذا كنتم تبحثون عن شخصية قادرة على التحدث والتفاهم مع سوريا وحزب الله، فمن برأيكم يمكنه ذلك؟». وأضاف: «هل تعرفين أحداً من المرشحين الفعليين غير فرنجية يمكنه التحدث مع بشار الأسد لمعالجة أي أمور عالقة بين البلدين، خصوصاً في ملف النازحين؟ ومَن مِن هؤلاء غير فرنجية يثق به حزب الله، ويمكنه التفاهم مع الحزب حول أمور كثيرة تخص لبنان وعلاقاته الخارجية، ويمكن أن يمون على الحزب في بعض الأمور؟».
وأضاف: «من قال إن فرنجية ليست له وضعية مسيحية. هل الأصوات هي العنصر الحاكم، وماذا عن تصويت المسيحيين قبل 2005. هل الجمهور اليوم أكثر حرية، وهل يوجد في لبنان، حتى بين خصوم فرنجية، من يمكنه أن ينفي عن الرجل تاريخه المسيحي، وتاريخ عائلته التي لطالما كانت لها علاقات قوية مع العالم العربي ومع الغرب، ومع السعودية على وجه الخصوص».
الأسد لا يريد التورط في لبنان لكنه لا يزال غاضبا من بري حتى اعادة القذافي الإبن الى دمشق


وبحسب الرواة أنفسهم فإن بري تابع: «لا مشكلة لفرنجية مع السعودية. ربما هناك مشكلة للسعودية مع فرنجية، لكن موقف الرياض غير واقعي، لأن فرنجية ليس مسؤولاً عما يفعله حزب الله، ولا عما يفعله سعد الحريري. ولا يمكن أن يفرض أحد في الخارج على أحد في الداخل كيف يبني علاقاته».
ولفت بري - ودائماً بحسب الرواة - إلى أن «لبنان يحتاج اليوم رئيساً لا يكون خاضعاً للمسلمين، لكنه قادر على مواجهة أي ضغوط مسيحية غير منطقية عليه. ومن يفكر برئيس من دون قدرات، فإنه يدعو إلى استمرار الأزمة في لبنان». وتنقل المصادر نفسها أن شيا كررت أنه ليس لبلادها أي موقف من فرنجية، وأنها تتفهم ما قاله رئيس المجلس.



فرنسا ومعارضو تسوية فرنجية - سلام
داخلياً، تبدو الأمور متعثرة بصورة كبيرة. إذ إن «التحالف» المعارض لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية يبدو في الظاهر واسعاً وكبيراً. وهو يضمّ، بحسب المواقف المعلنة، التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي ونواب «التغيير» والكتائب ونواباً محسوبين مباشرة على السعودية، إضافة إلى مؤيدي قائد الجيش العماد جوزيف عون. ويتصرف هؤلاء على أنهم قادرون على منع عقد جلسة نيابية تتيح انتخاب فرنجية حتى ولو كان تأمّن 65 صوتاً، ناهيك عن أن موقفهم المعارض لا يسمح أساساً للفريق الداعم لفرنجية بتأمين الأصوات الـ 65.
لكن هذه الحسابات لا تبدو حاسمة في ظل الدور المركزي للاعتبارات الخارجية. ويتبين من سياق الجهود الفرنسية أن العمل على الموقف السعودي أساسي، وأنه متى تغير موقف الرياض من فرنجية، فإن ذلك سيكون من ضمن تسوية تشمل ما هو أبعد من الرئاسة.
وبحسب مصادر، فإن باريس لم تكن أساساً صاحبة فكرة مقايضة فرنجية - نواف سلام. بل جاءت هذه من فريق لبناني يدعو إلى تسوية شاملة يكون الجميع فيها، في لبنان وخارجه، شركاء في المسؤولية والحكم. وقد طرح الفرنسيون الفكرة على السعودية وقوى أخرى، انطلاقاً من أن موافقة ثنائي أمل - حزب الله على المقايضة، تعني إقراراً منهما بعدم إمكانية الاستمرار في آليات الحكم وفق معادلات سابقة، وأن حزب الله، تحديداً، يدعم تسوية تتيح وصول رئيس قادر على التواصل مع الجميع داخلياً وخارجياً، وأن يصار إلى بناء فريق وبرنامج عمل بالتعاون مع العواصم والمؤسسات الدولية، ما يسمح بتنفيذ خطوات إصلاحية تعيد الحياة إلى مؤسسات الدولة، وأن قبول الحزب بهذه التسوية يهدف إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية على لبنان رغم أنه الأقل تضرراً منها.
لكن باريس لمست أن الاعتبارات التي تتحكم بمواقف أطراف محلية بارزة لا تستند إلى منطق التسوية، بل تهدف إلى استكمال المواجهة السياسية. وفي هذا المجال، استمع الفرنسيون إلى «نصائح» من وليد جنبلاط، لكنهم، في قرارة أنفسهم، مقتنعون بأن جنبلاط قد يكون الأكثر حماسة لتسوية شاملة. وهو إذا كان يفضّل مرشحاً على آخر، إلا أنه لن يقف في مواجهة تسوية قوية ولو كان فرنجية عنواناً رئيسياً فيها. كما أن لدى باريس قناعة بأن عدداً غير قليل من النواب والقوى تدرك أن البقاء خارج السلطة ليس في مصلحتها، لأن المعارضة، في حال تم التوصل إلى تسوية محلية - خارجية، ستكون ضعيفة ما لم تكن لدى المعارضين قدرة على تقديم البديل، وأن الأمر لا يستقيم بشعارات وعناوين إصلاحية فقط. وينقل عن مسؤول فرنسي كبير قوله: «جرّب اللبنانيون كل القوى من دون استثناء، ويمكن للجميع الادعاء بأنه لم يتح لهم العمل. لكن حقيقة الأمر، أن التسوية لم تكن قوية بما يكفي لتحقيق خطوات كبيرة».