مع انطلاق المعركة الرئاسية في تركيا، تدفع كلّ من روسيا وإيران في اتّجاه تعزيز حظوظ الرئيس طيب إردوغان، للفوز بولاية رئاسية ثالثة، وذلك من خلال استعجالهما تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق. ويتمظهر هذا الاتجاه في الاجتماع الرباعي الذي سيُعقد اليوم على مستوى نوّاب وزراء خارجية هذه البلدان، على رغم ما يمثّله من تراجُع في التمثيل، مقارنة بالاجتماع الأول الذي عُقد على مستوى وزراء الدفاع. ومع أن الوقت المتبقّي قبل حلول موعد الاستحقاق الانتخابي التركي يبدو داهماً لمعالجة عناوين ملفّات، يحتاج كلّ واحد منها إلى مؤتمر للخوض فيه، إلّا أن ثمّة مسعى سورياً - إيرانياً على الأقلّ، لدفع أنقرة إلى اتّخاذ خطوات حسن نيّة جادّة وحقيقية يمكن أن يُستكمل على أساسها مسار المصالحة، مهما تكن نتيجة الانتخابات
تخوض روسيا وإيران سباقاً مع الوقت من أجل تدعيم حملة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، للفوز بولاية رئاسية ثالثة، في الانتخابات المقرّر إجراؤها في الـ 14 من أيار المقبل. وقد بدا هذا الاستعجال واضحاً، ولا سيما أن الإعلان عن مواصلة المباحثات (التركية - السورية) في موسكو، الأربعاء، جاء بعد وقتٍ قليل من تسمية المعارضة مرشّحها المشترك، كمال كيليتشدار أوغلو، لخوض السباق الانتخابي، وتثبيت السلطات موعد الاستحقاق. كذلك، تمظهر السباق المُشار إليه من خلال الإعلان عن أن محادثات اليوم ستُعقد على مستوى نوّاب وزراء الخارجية في البلدان الأربعة، ما يمثّل تراجعاً في مستوى التمثيل، مقارنةً بلقاء موسكو الأوّل - عُقد على مستوى وزراء الدفاع -، مع فارق جوهري، وهو أن إيران لم تكن جزءاً منه آنذاك.
وكان متوقّعاً بعد لقاء موسكو «الدفاعي»، في 28 كانون الأول الماضي، أن ينعقد آخر على مستوى وزراء الخارجية، غير أن تدخُّل طهران و«احتجاجها الودّي» على استبعادها من الأوّل، أخّر انعقاد الثاني. ومِن بَعد ذلك، جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى دمشق ومن ثمّ إلى أنقرة، حيث جرى الاتفاق على أن تكون بلاده طرفاً في مسار المصالحة. لكن ما تقدَّم، لم يكن السبب الوحيد وراء تباطؤ المسار المذكور؛ إذ إن الرئيس السوري، بشار الأسد، كان واضحاً للغاية عندما اشترط، لمواصلة رحلة المصالحة، انسحاب القوّات التركية من الأراضي السورية المحتلّة، ورفْع الغطاء عن الجماعات الإرهابية في إدلب وسائر مناطق الوجود التركي. من هنا، ظهر أن الأتراك لم يتعهّدوا، خلال لقاء موسكو، بأيّ خريطة طريق قابلة للتنفيذ، ولو على مراحل، سواء قبل الانتخابات التركية أو بَعدها. وبدلاً من الاتفاق على اجتماع لوزراء خارجية البلدان الأربعة، تجدَّد الحديث عن اجتماع آخر لوزراء الدفاع، وهو ما أوحى بأن الظروف لم تنضج بعد للخوض في المسار السياسي، والذي لا يزال يحتاج إلى مزيد من الخطوات العمليّة.
تُقدّم إيران وروسيا جرعة دعم معنوية للرئيس التركي في معركة الانتخابات


ومع أن زلزال السادس من شباط ضرب كلّاً من تركيا وسوريا، إلّا أن أيّاً من الطرفَين لم يبادر إلى الاتّصال بالآخر للتعزية أو لعرض المساعدة، ما أوحى، مرّة جديدة، بأن مسار المصالحة متعثّر. ومن ثمّ تحرّكت الماكينات الانتخابية في تركيا وسط جدل عميق حول إمكانية تأجيل الاستحقاق، ما أربك إردوغان، ذلك أن أيّ إرجاء كان سيُعدّ هروباً من نتائج إخفاق السلطة في مواجهة التداعيات الكارثية للزلزال. ولمّا استقرّ الأمر على إجراء الانتخابات في موعدها، عاودت الماكينات الانتخابية تحرّكها، لكن هذه المرّة على وقع تحرّك روسيا وإيران، بالتنسيق مع تركيا، لتدارُك حصول الأسوأ، والمتمثّل في خسارة إردوغان الانتخابات، وما سيتركه ذلك، كما يَفترض البعض، من تداعيات سلبية على العلاقات التركية مع كلٍّ من روسيا وإيران.
غير أن الاجتماع المقرّر عقده اليوم وغداً، مثّل مفاجأة لجهة تدنّي مستوى التمثيل، في حين يتطلّب الأمر - كما الضرورة - أن يُعقد، وكما كان مخطّطاً له في كانون الأول الماضي، على مستوى أعلى من نوّاب وزراء الخارجية. وإذا كان الغائب عذره معه، فإن التوقّعات تشير إلى أن اللقاء المقبل سيُعقد على مستوى وزراء الخارجية، ومن ثمّ مباشرة على مستوى رؤساء الجمهورية. وفي ظلّ تحديد موعد الانتخابات النيابية بعد شهرين من الآن، تَكثر الأسئلة عمّا يمكن أن تفعله الأطراف الأربعة خلال هذا الوقت القصير جدّاً، والذي بالكاد يكفي ليُخرج إعلان نوايا، بينما كلّ عنوان في الملفّ التركي - السوري يحتاج إلى مؤتمر في ذاته. فمسألة اللاجئين الأكثر ضغطاً على إردوغان، ازدادت تعقيداً بعد الزلزال، وخصوصاً مع تصاعُد الحديث عن موجات هجرة جديدة من سوريا إلى الداخل التركي؛ والعمل على مواجهة الإرهابيين في مناطق الوجود التركي، ليس وقته الآن، لأن السلطات متفرّغة لإيواء النازحين المتضرّرين من الكارثة. أمّا الاتفاقات التي تضمن الأمن على جانبَي الحدود، فهي أكبر وأعقد من أن تُثبَّت خلال أشهر وأكثر، فكيف بأقلّ من 60 يوماً؟ ولا يُعرف، أيضاً، كيف سيتّفق البلَدَان على مواجهة وجود «قوات حماية الشعب» الكردية المدعومة أميركيّاً في شرق الفرات، وخصوصاً مع اعتراض الولايات المتحدة الشديد على المصالحة بين أنقرة ودمشق.
وهنا، اختارت الولايات المتحدة تحدّي تركيا برسالة مفادها بأنها باقية في شرق الفرات، وهو ما عبّرت عنه الزيارة التي قام بها، في 4 آذار الجاري، رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية، مارك ميلي، إلى شرق الفرات، وخصوصاً في ظلّ أنباء - نفتها واشنطن - عن أنه اجتمع إلى قادة من «قسد» و«حزب العمّال الكردستاني». وإذا كان البعض يستدلّ بالاتفاق الإيراني - السعودي للحديث عن احتمال إحداث مفاجأة في الملفّ التركي - السوري، فهذا لا يصمد أمام حقيقة أن المفاوضات الإيرانية - السعودية استمرّت على مدى أكثر من سنتين. كما أن ملفّ الخلافات بينهما إقليمي بمعظمه، فيما لا يوجد أيّ تواصل جدّي بين أنقرة ودمشق إلّا منذ أسابيع قليلة، فضلاً عن أن الإشكاليات في ما بين الأخيرتَين ثُنائية بامتياز، من الاحتلال، إلى اللاجئين، إلى عمليات التغيير الديموغرافي، إلى وجود جماعات مسلّحة في الشمال السوري.
في ضوء معظم هذه الظروف، فإن ما هو متوقّع من لقاء موسكو، اليوم، أن تُقدّم إيران وروسيا جرعة دعم معنوية للرئيس التركي في معركة الانتخابات، والتي يواجه فيها تحدّياً جدّياً من قِبَل المعارضة، من خلال الوعد بحلّ المشكلات مع سوريا ولو بعد الاستحقاق. ولربّما اجتمع وزراء خارجية الدول الأربع قريباً، لكن تطوُّر الأمور إلى لقاء مباشر بين الرئيسَين رجب طيب إردوغان، وبشار الأسد، يبدو خارج المتناول، إلّا في حالة واحدة، وهو إعلان تركي كبير عن الانسحاب من الشمال السوري، أو حصول ضغوط إيرانية وروسية كثيفة على دمشق لعقد مثل هذا اللقاء. وفي جميع الأحوال، فإن الانتخابات الرئاسية التركية تحوّلت إلى صراع إقليمي ودولي، حيث تقف إيران وروسيا والصين إلى جانب إردوغان، فيما تقف الولايات المتحدة وأوروبا ضدّه؛ أمّا العديد من الدول العربية والخليجية، فقد اختارت الوقوف في المنطقة الرمادية.