بأسلوب «مسرحي» فجّ، استهلّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، جولته الأفريقية (2 - 5 الجاري)، التي شملت الغابون وأنغولا والكونغو-برازافيل (جمهورية الكونغو الديموقراطية)، بمانيفستو «نهاية فترة التدخّل الفرنسي» في شؤون أفريقيا، وتحديداً ما يُعرف بـ«أفريقيا الفرنسية» (Franc afrique). وقابلت ذلك موجةُ سخرية من أطياف سياسية متعدّدة، ولا سيما منها تلك المعارِضة في الدول التي حلّ فيها ماكرون؛ إذ اعتبرت، على سبيل المثال، جماعاتُ المجتمع المدني والمعارضة الغابونية أن زيارته لليبرفيل العاصمة، تُمثّل دعماً تكتيكياً للرئيس علي بونغو، الذي يُتوقَّع أن يخوض مرّة أخرى انتخابات الرئاسة في الصيف المقبل لاستكمال حُكم أسرته المستمرّ منذ خمسة عقود. كما اتّضح، من محطّات الزيارة الأخرى وأجندتها، أن التنافس مع روسيا والتخوّف من تمدّدها في «أفريقيا الفرنسية» يشكّلان الهاجس الأوّل لهذه الجولة، ولا سيما أن الرئيس الفرنسي وصف استراتيجية بلاده بإيجاز بأنها «ليست انسحاباً ولا فكّ ارتباط»، بل تكيُّف مع حاجات الشركاء، وإنْ أعلن عن انسحابات إضافية «في الشهور المقبلة» للجنود الفرنسيين (أكثر من ثلاثة آلاف عنصر) من مناطق وجودهم الحالية في السنغال وساحل العاج والغابون وجيبوتي، مع استبعاد خبراء كثر لأيّ عمليات انسحاب مماثلة من جيبوتي، لأهمّيتها الجيواستراتيجية الفائقة.
جدول أعمال ماكرون الأفريقي: دعْم الحلفاء
تزامَنت زيارة ماكرون للغابون، مع استعداد رئيسها علي بونغو لخوض الانتخابات الرئاسية في العام الجاري، ليواصل حُكمه المستمرّ منذ تسلمه السلطة من أبيهِ في عام 2009. وبحسب متابعين، فإن هذا التزامن كان من شأنه تعزيز نفوذ بونغو السياسي داخل الغابون، وهو ما قاد إلى خروج أصوات مُعارِضة للزيارة. كذلك، التقى ماكرون، خلال وجوده في ليبرفيل، رؤساء كلّ من الكونغو-برازافيل، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد، وغينيا الاستوائية، والذين حضروا إلى المدينة الغابونية للمشاركة في قمّة حول «حماية الغابات الاستوائية»، وهم مجموعة من أهمّ حلفاء فرنسا في القارّة حتى اللحظة الحالية. ووصف الرئيس الفرنسي أنغولا بـ«الشريك الاستراتيجي في الإقليم» (أفريقيا الجنوبية)، فيما ترأّس، خلال زيارته لواندا العاصمة، منتدًى اقتصادياً حَضره ممثّلون لأكثر من 50 شركة فرنسية، ركّز أغلبها على تقوية الشراكة مع أنغولا في قطاع الزراعة، مع الأخذ في الاعتبار أن فرنسا منخرطة بقوّة في قطاع البترول في هذا البلد منذ عقود، كما هو حالها في بقيّة «المستعمرات البرتغالية» السابقة وأبرزها موزمبيق. وشكّلت محطّة ماكرون في لواندا فرصة لاستكشاف التعاون بين الطرفَين في مجالات أخرى، بحسب «اللوموند» (الـ3 من الجاري)، بينما وقّعت الحكومتان اتّفاقاً لتعزيز القطاع الزراعي في أنغولا، ولا سيما «الصمود المناخي والأمن المائي»، ودعْم صناعة القهوة، وجهود لواندا لتعزيز أمنها الغذائي وتنويع مصادر دخْلها ومن ثمّ تعظيم سيادتها الوطنية.
ومن لواندا، توقّف ماكرون، لساعات قليلة، في العاصمة الكونغولية برازافيل قبل التوجّه إلى كينشاسا، على الضفة المُقابلة لنهر الكونغو، محطّته الأخيرة (4 الجاري). وفي كينشاسا، دعا السلطات إلى النظر «داخلياً في حلول لتحدّيات البلاد الأمنية، ولا سيما في الإقليم الشرقي، بدلاً من التطلّع إلى الخارج لإيجاد تلك الحلول». وجاءت تعليقات ماكرون وسط تظاهرات حاشدة لشباب كونغوليين اتّهموه بالوقوف مع «المعتدين» (في إشارة إلى رواندا التي تتّهمها كينشاسا وعواصم غربية، من بينها باريس، رسمياً، بدعم العنف في البلاد)، على خلفيّة الروابط الوطيدة بين باريس وكيجالي. وإلى جانب أولوية مسألة الأمن في أجندة ماكرون في الكونغو، فإن المسألة الاقتصادية كانت حاضرة أيضاً بعنوان التعاون الثنائي في إطار «الشراكة المتوازنة الجديدة مع أفريقيا»، حيث اختتم ماكرون، ونظيره الكونغولي، فيليكس تشيسيكيدي، في نهاية زيارة الأوّل، «منتدى روّاد الأعمال الفرنسي - الكونغولي» بتوقيع العديد من الاتّفاقات التجارية الثنائية. لكن تحليلات فرنسية مهمّة رأت أن زيارة الرئيس الفرنسي لكينشاسا لم تُحقّق الحد الأدنى من أهدافها، في ظلّ تفاديه إدانة صريحة وواضحة لـ«العدوان الجائر والبربري لرواندا» على الكونغو، بحسب وصْف تشيسيكيدي في المؤتمر الصحافي المشترك، واكتفائه بالتلويح بفرض عقوبات في حال عدم الالتزام بعملية السلام (التي ترعاها أنغولا كوسيط رئيس منذ تشرين الثاني 2022)، من دون أن يحدّد طرفاً مستهدَفاً بعينه. وجاء هذا الموقف على رغم إعلان «الإليزيه» سابقاً تَوفّر «أدلّة لديه على وجود قناة رواندية مباشرة مع متمرّدي "M23"، وأن كيجالي قادرة على التأثير على وضعهم». كما لم تُرضِ كينشاسا إشارةُ ماكرون المبهَمة إلى أن «التدخّل الخارجي (في أزمة شرقي الكونغو) معروف»، ودعوتُه إلى وقْف النهب لتفادي البلقنة والحرب.
وفي المجمل، فإن أجندة ماكرون بدت، في الأساس، في سياق دعم حلفاء فرنسا في القارّة، أمنياً واقتصادياً، واستباق أيّ تحوّلات راديكالية في سياسات هؤلاء الحلفاء الخارجية، ولا سيما نحو روسيا.

ماكرون والاستراتيجية الجديدة
تحدّث مراقبون عن تحقيق ماكرون قدْراً من النجاح في جولته الأفريقية، واستفادته ممّا وصفوه بـ«الحياد الجيوسياسي للقادة الأفارقة»، لافتين إلى تركيزه خلال الجولة على التطوير العملي للمشروعات المتّصلة بالاحتياجات الإنسانية للدول التي تَوقّف فيها (وإنْ بمستويات دُنيا)، ومحاولته استعادة زخم قوّة فرنسا الناعمة من خلالها. كذلك، خطا ماكرون خطوة استباقية لافتة، ظاهرياً على الأقلّ، بإعلانه صراحة أن عهد التدخّل الفرنسي في أفريقيا (الفرنسية تحديداً) قد انتهى، وأنه ليست لدى باريس رغبة في العودة إلى أساليب الماضي، بينما نشرت «اللوموند» (الـ6 الجاري) افتتاحية مناقِضة لتلك الفكرة، استهلّتها بالتأكيد (السليم في واقع الأمر) أن فرنسا لن تُغادر أفريقيا في الوقت الذي تتحرّك فيه قوى الحرب الباردة، والقوى الفاعلة في القارّة مِن مِثل الصين والهند والإمارات وتركيا، في أرجائها على نحو غير مسبوق، معتبرةً أن مهمّة مواجهة الشعور بأن فرنسا تفقد نفوذها في أفريقيا مهمّة ثقيلة، وإنْ تَمكّن ماكرون من البدء بالسليم بها بإبدائه حرْص باريس على شراكات مسؤولة ومتوازنة مع الدول الأفريقية، ولا سيما في مجالات حماية البيئة والزراعة والصحّة.
وفي هذا الإطار، حَمل إعلان ماكرون الملتبس في شأن إعادة تنظيم القواعد العسكرية الفرنسية، التي يقوم عليها النفوذ الفرنسي في القارّة حتى اليوم، مؤشّرات إلى تناقضات مواقف باريس وافتقادها المصداقية وانفصالها عن الواقع، إذ فضلاً عمّا عدّتْه «اللوموند» صراحة محدودة أو لا جدّية في إدانة دعم رواندا للتمرّد في شرقيّ الكونغو، والذي عنى فشلاً مبدئياً في تعميق استراتيجية فرنسا الجديدة في الكونغو وأنغولا اللتَين تمثّلان عمقاً جديداً لهذه الاستراتيجية، أعلن ماكرون، في مستهلّ جولته، أن قواعد بلاده العسكرية المتبقّية، والبالغ عددها ستّاً، ستُدار بالتدريج بالتعاون مع الدول المستضيفة لها، وأن عدد الجنود الفرنسيين سيقلّ بشكل واضح، كما أنها ستتحوّل إلى أكاديميات عسكرية أو روابط للشراكات الجديدة القائمة في الأساس على «احترام الحاجات الأفريقية». لكنّ المقارنة الرائجة راهناً بين «الخروج الفرنسي من أفريقيا»، وتجربة الولايات المتحدة في أفغانستان، تميل إلى تسطيح المسألة واختزالها، بالنظر إلى تمدُّد الإمبراطورية الفرنسية في أكثر من 25 دولة أفريقية تتباين أوضاعها بشكل كبير، وتكريس باريس طوال عقود ممتدّة - وربّما قرون - حالة تبعيّة وارتباطات عضوية مع النُّخب الحاكمة في هذه الدول، ما جعلها طرفاً تاريخياً أصيلاً ومستداماً في أزمات القارّة الراهنة، فيما تحاول هي استحضار روح الحرب الباردة كخلفيّة لنزوعها إلى «استراتيجية جديدة»، وإعادة فرْض هيمنتها من بوّابة «الشراكة».

تقييم الجولة
رأى بعض المتابعين أن ماكرون استطاع تحقيق نجاح نسبي في جولته، وخصوصاً في ظلّ تنسيق المواقف الذي ظهر بينه وبين القادة الأفارقة بخصوص الأزمة في شرقيّ الكونغو (بل وإعلانه نيابةً عنها استعدادها «جميعاً» لدعم وقف لإطلاق النار)، وورود تقارير عن استعداد بروكسل لإقامة «جسر جوّي للمساعدات الإنسانية» (الأوروبية) للإقليم (بقيمة لا تتجاوز 50 مليون يورو)، الذي شرّد القتال فيه أكثر من 600 ألف مواطن. في المقابل، قدّر ناشطون أفارقة في عدّة دول أن الجولة كانت فاشلة منذ بدايتها، معتبرين أن إعلانه انتهاء «فرنسا الأفريقية» كان يمكن أن يكون ذا مغزى لو صدر في نهاية الجولة وليس قبل انطلاقتها، فضلاً عن أنه ظَلّ معبّراً عن الإهانة الفرنسية للقارّة، واستمرار رؤيتها ككيانات قاصرة بحاجة إلى رعاية أبوية، أو كساحة خلفيّة لفرنسا، والإصرار على تجاهل حالة العداء المتفشّية في أرجائها ضدّ النفوذ الفرنسي، ولا سيما مع وجود بدائل أخرى.
أجندة ماكرون بدت، في الأساس، في سياق دعم حلفاء فرنسا في القارّة، واستباق أيّ تحوّلات راديكالية في سياسات هؤلاء الحلفاء الخارجية


كذلك، عُدّت الزيارة جهداً فرنسياً، بالوكالة عن الاتحاد الأوروبي ربّما، لمواجهة تمدّد النفوذ الروسي. وفي هذا الإطار، رأى مراقبون غربيّون أن إعلان باريس تغيير سياساتها الخارجية في أفريقيا، لا ينفي حقيقة أن صِلاتها بمستعمراتها السابقة تبقى شكلاً من أشكال الاستغلال المستمرّ، متوقّعين أن تعمل فرنسا، بقوّة في المرحلة المقبلة، على تقديم الدعم الأمني للدول الأفريقية بـ«مشروطيّات سياسية أقلّ» (عبر تكثيف التعاون الأمني ونقْل خبرات فرنسا إلى الأكاديميات العسكرية الوطنية في هذه الدول)، كما هو حال الدعم الروسي الأمني للعديد من الدول الأفريقية في إقليم الساحل وجمهورية أفريقيا الوسطى، مع الإشارة هنا إلى أن الغابون وأنغولا والكونغو- برازافيل كانت من بين خمس دول فقط (مع الصين والهند) امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة على قرار يطالب روسيا بسحب قوّاتها فوراً من أوكرانيا.

خلاصة
ربّما كان جدال ماكرون مع تشيسيكيدي في المؤتمر الصحافي المشترك، بخصوص مسؤولية فرنسا عن أزمة الأمن في الكونغو، بعد تساؤل الأخير عن كيفية مساعدة باريس لبلاده في هذا الملفّ، وإعلان الأوّل صراحة أن فرنسا يجب ألّا تتحمّل كلّ هذا العبء (أخذاً بالمسؤولية الاستعمارية عن أزمة الكونغو الممتدّة منذ عقود)، وأنها «ليست مرغَمة على عمل الصالح لكم، تلك هي مهمّتكم»، التجسيد الأوضح لتراتب المسؤوليات عن أزمات القارّة، ابتداءً من قادة هذه الأخيرة، وصولاً إلى فرنسا التي ستعمل بطبيعة الحال على تحقيق مصالحها، بالالتقاء مع النزعة الاستبدادية والجنوح إلى تعميق تَبَعية نظم الحُكم في «أفريقيا الفرنسية» لتوجّهات باريس (وعواصم غربية شريكة لها) والشركات الفرنسية. على أن تلك التراتبية تكشف أيضاً اختلالات عميقة في الاستراتيجية الفرنسية المرتقَبة في أفريقيا، والتي سيكون عنوانها على الأرجح تعميق الوضع القائم؛ أي خدمة المصالح الفرنسية من بوّابة نُظُم الحُكم (كما في تشاد والغابون والكونغو-برازافيل وغينيا الاستوائية)، والاحتواء الضاغط (كما في جمهورية الكونغو وأفريقيا الوسطى)، وسياسة الاقتصاد أوّلاً (نموذج أنغولا)، في ما يؤشّر جميعه إلى عدم وجود تغيير حقيقي حالياً أو في المستقبل القريب.