بدا الأمر قبل أسابيع، مع تحريك ملف جريمة تفجير مرفأ بيروت، بأنه أقفِل على حصيلتيْن: إخراج الموقوفين دفعة واحدة (بعدَ ضغط أميركي للإفراج عن رئيس مصلحة الأمن والسلامة في مرفأ بيروت اللبناني - الأميركي محمد زياد العوف)، وبلوغ التحلّل المؤسساتي داخل القضاء مستوى غير مسبوق، مع تكريس الجسم القضائي نفسه الانقلاب على القانون. وظهرَ أن أي تحقيق لن تقوم له قيامة في ظل الانقسامات والخلافات التي تمنع البت في الدعاوى المتبادلة بين أطراف النزاع، من قضاة ومدعى عليهم وأهالي ضحايا وموقوفين. إلا أن الجمود المُحيط بملف المرفأ، تتوارى خلفه محركات لإخراج «عدة شغل» لتحريك ملف المرفأ وسطَ حسابات محلية ودولية تسعى إلى استنساخ مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عبر تدويل القضية. لاحت بوادر التدخلات الدولية في ملف التحقيقات من البداية، واتضحت أكثر مع حركة السفراء «المفضوحة» تجاه المحقق العدلي في القضية طارق البيطار، ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود. وسمحت الإدارة السياسية الخاطئة للملف، فضلاً عن الاستثمار الداخلي فيه لتصفية حسابات سياسية وقضائية، في دفع القضية باتجاه التدويل الذي لا يُعد شرطاً لتحقيق العدالة (بالاستناد إلى تجربة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان) لكن الأكيد أن الملف سيتحول إلى ورقة ابتزاز جديدة.
ثمة من يتحدث عن مسار جديد سيتخذه ملف التحقيقات، في ظل ما يتداول عن نية مجلس حقوق الإنسان التابِع للأمم المتحدة، خلال انعقاد الدورة العادية نهاية الشهر الجاري، إصدار بيان مشترك عن 25 دولة عضواً في المجلس يطالب فيها الدولة اللبنانية بإطلاق التحقيق ومنع التدخلات السياسية، وأن هذا البيان يمهد لتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية تتابع الملف.
لجنة تقصي الحقائق لا تحتاج موافقة من الحكومة ولا تمتلك صلاحية الإدانة أو اتخاذ قرار مُلزِم


وفيما تتوق بعض الجهات الداخلية إلى تدويل القضية ظناً منها أنها باب للمواجهة مع طرف آخر، انطلقت حملة إعلامية وشعبية تؤكدّ على ضرورة وضع الخارج يده على الملف، مع التهويل بأن لجنة تقصي الحقائق تتمتع بصلاحية مطلقة لا تحدها أي حصانات سياسية أو قضائية. وقد أعادَ الحديث عن اللجنة الذاكرة إلى لجنة تقصي الحقائق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي ترأسها الإيرلندي بيتر فيتزجيرالد. إذ لم تصل يومها إلى حقائق دامغة، بل إلى استنتاجات سياسية. آنذاك، توجهت اللجنة التي ضمت جيرالد واثنين من محققي الشرطة ومستشاراً قانونياً وآخر سياسياً، إلى لبنان لجمع المعلومات حول ملابسات الاغتيال، وانضم إليها خبراء في مجال المتفجرات والقنابل والحمض النووي وفحص مسرح الجريمة، بالاتفاق مع السلطات اللبنانية لفحص مسرح الجريمة والعينات التي جمعت منه، التقى أعضاؤها بعدد كبير من المسؤولين اللبنانيين وممثلين للجماعات السياسية المختلفة، وأجرت استعراضاً شاملاً للتحقيقات اللبنانية والإجراءات القانونية، وبعدَ أن انتهت تحقيقاتها، ورفعت توصياتها بتشكيل لجنة تحقيق أمنية دولية ذات اختصاص وتمتلك صلاحيات محددة وتستطيع اتخاذ قرارات تكون ملزمة. من الواضح اليوم أن هناك من يسعى إلى تكرار هذا السيناريو. والحديث عن لجنة تقصي حقائق، يعتبر خطوة أولى في هذا الاتجاه، علماً أن عمل هذه اللجنة، وفقَ ما تقول مصادر مطلعة «ليسَت له أي مفاعيل، فهي ليست هيئة قضائية تؤدي حكماً إلى إنشاء محكمة خاصة بالجريمة، أو إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلا في حال قرر مجلس الأمن تبني توصياتها بتأليف لجنة تحقيق دولية في ما بعد». وأشارت المصادر إلى أن «لجنة تقصي الحقائق لا تحتاج موافقة من الحكومة اللبنانية ولا إلى طلب رسمي لبناني، خصوصاً أنها ليست جهة تمتلك صلاحية الإدانة أو اتخاذ قرار مُلزِم»، لكن ذلك لا يلغي ضرورة التنبه إلى الهدف من وراء هذه اللجنة، وما سيلحقها «إذ إن المسار الذي سيترتب عنها هو الذي سيحدد ما إذا كان الهدف هو الوصول فعلاً إلى تدويل قضية المرفأ، وهذا الأمر يحدده مجلس الأمن الذي هو هيئة سياسية تتحكم به سياسات الدول ومصالحها، فإما أن يتبنى ما يصدر عن لجنة تقصي الحقائق وإما أن يبقى عملها ضمن إطار «حقوقي» من دون استخدام توصياتها في السياسة».