على رغم صدور تقرير مفصّل عن ديوان المحاسبة (أعدّته رئيسة الغرفة الرابعة في الديوان نللي أبي يونس والمستشارتان نجوى الخوري ورانيا اللقيس) يوثّق مخالفات إدارة التفتيش المركزي، يمعن رئيس التفتيش القاضي جورج عطية في مراكمة التجاوزات. فبعدما طُلب منه الالتزام بممارسة صلاحياته ضمن الأطر المنصوص عليها في القانون وعدم الجمع بين المهام الرقابية والتنفيذية في ما يتعلق بمنصة Impact (سجّل عبرها المواطنون طلبات للحصول على لقاح كورونا ولاحقاً على مساعدة اجتماعية)، علمت «الأخبار» أن رئيس التفتيش يمارس ضغوطاً على رئاسة الحكومة ووزارة المال لتسوية المخالفات التي قام بها، بتوقيع معاهدة مع السفارة البريطانية بشكل منفرد من دون العودة إلى الوزارات المختصة ومجلس الوزراء وقبول هبة عينية من السفارة نفسها بقيمة 3 ملايين دولار من دون تسجيلها في المالية وفق الأصول. ضغوط عطية وصلت حدّ نقله تهديدات سفراء أجانب بوقف أموال مشروع «دعم» إذا لم تُسوّ المخالفات، وبالتالي حرمان 75 ألف عائلة من بعض التقديمات المالية. علماً أن هذه الأموال عبارة عن قرض أو ديون مستحقة على الدولة اللبنانية وليست منّة من أحد.وكان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي حوّل مخالفات التفتيش في آب 2022 إلى الديوان لفتح تحقيق فيها، وافق في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء على طلب وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجار (قاطع الجلسة لعدم ميثاقيتها!) التمديد لمشروع دعم شبكة الأمان الاجتماعي لستة أشهر إضافية. إلا أن الأمين العام لمجلس الوزراء القاضي محمود مكيّة أرفق مجموعة ملاحظات بالموافقة، أبرزها الطلب من حجار «تحديد المعايير ومعدلات القياس التي سيتم اعتمادها لاختيار العائلات الجديدة التي ستستفيد من هذا المشروع، ووضع تقرير مفصل عن النفقات المتعلقة بمراحل وجوانب المشروع كافة منذ المباشرة بتنفيذه ولغاية تاريخه. إذ إن شكاوى عديدة تصل إلى رئاسة الحكومة ووزارة الشؤون والتفتيش حول الاستنسابية في انتقاء العائلات. علماً أن كتاب ميقاتي إلى الديوان أشار إلى «التلاعب والمحاباة في اختيار المستفيدين من شبكة الأمان الاجتماعي».
وعلى رغم صدور تقرير الديوان الذي يؤكد عدم صلاحية التفتيش في إدارة منصة المساعدات، إلا أن أحداً في الدولة اللبنانية لم يكترث بالأمر، بما في ذلك رئيس الحكومة نفسه الذي يتحمل جزءاً من المسؤولية طالما أن القانون يضع المنصة والداتا التي تحتويها بإدارة رئاسة الحكومة. لا بل سجّل ميقاتي خطوة إلى الوراء عندما طلب أخيراً رأي الديوان في إمكانية «تسوية» وضع عطية، متجاهلاً ما ورد في تقرير الديوان نفسه. وهو ما يشير إلى ضغوط خارجية لإقفال الملف طالما أن التفتيش لم يخالف القانون وحده، بل شاركته في ذلك السفارة البريطانية التي لم تلتفت إلى آلية توقيع مذكرات التفاهم مع دول أخرى أو مرسوم قبول الهبات المالية. أضف إلى ذلك أن المشروع برمته، مع الاستنسابية التي رافقت تنفيذه لناحية انتقاء المستفيدين، يضع البنك الدولي تحت المجهر، خصوصاً أن مسؤولين من البنك بذلوا جهوداً كبيرة لإبقاء المنصة تحت إدارة التفتيش وعدم نقلها إلى رئاسة الحكومة. والسؤال الرئيسي هنا: هل تخضع الدولة اللبنانية لضغوط البنك الدولي والسفارة البريطانية وترمي بملف تجاوزات إضافي في أدراجها من دون أي محاسبة أو مساءلة؟ وهل يتجرأ أحد على تطبيق توصيات الديوان حول هذه المخالفات لتصحيح الخطأ خصوصاً أن الأمر يمسّ بالمواطنين اللبنانيين وبوضعهم الاجتماعي وبأمنهم المعرّض للخطر نتيجة انكشاف الداتا الخاصة بهم؟
رئيس التفتيش، من جهته، رفض دعوة الديوان الخطية لحضور جلسة استيضاحية وتقدم بكتاب (أورد التقرير تفاصيله) يعتبر فيه استدعاءه في غير محله القانوني من حيث الشكل والمضمون، وأن التعرض له كرئيس تفتيش (حتى عند قيامه بكل هذه المخالفات والتجاوزات) هو تعرّض لهذه الهيئة الرقابية وسمعتها. وأكد أن التفتيش «يتمتع بحصانة كاملة ولا يتولى أي إدارة للأموال العامة، بل يقتصر دوره في موضوع البطاقة التمويلية على الرقابة. أما العمليات المالية فتجرى حصراً في الوحدة المركزية في رئاسة مجلس الوزراء».

ديوان المحاسبة: المتهم ليس بريئاً
وكان ميقاتي أحال في 1 آب الماضي كتاباً إلى ديوان المحاسبة حول تجاوز التفتيش المركزي صلاحياته مورداً مخالفات قامت بها إدارة التفتيش بشخص رئيسها، أبرزها تولي التفتيش التحكم بمنصة Impact، على رغم تحديد مهامه قانوناً بالرقابة والإشراف على عمل هذه المنصة فقط. بمعنى أنه لا يمكن لعطية أن يراقب نفسه خصوصاً أن التفتيش ينظر في الشكاوى المتعلقة بأسلوب الإدارة التي ينتهجها ويتولاها بنفسه. وما بدأ كتجاوز للصلاحيات انتهى، بحسب ما جاء في الكتاب، «بالتلاعب والمحاباة في اختيار المستفيدين من شبكة الأمان الاجتماعي»، وبالمسّ بأمن المواطنين وخصوصيتهم بعدما تبيّن لضباط الأجهزة الأمنية أن منصة Impact تحتوي على معلومات حساسة وسرية تتعلق باللبنانيين، وأن الفريق التقني في التفتيش المركزي لا يملك قدرة إدارة المشروع بكافة جوانبه، لا سيما أنه قد تم إدخال الداتا وحفظها على خوادم خارج لبنان، فيما رفض عطية الاستجابة لطلب الأجهزة الأمنية الاطّلاع على المنصة، وتمّ السماح فقط لموظفي إحدى المؤسسات البريطانية غير الحكومية (Siren) بالوصول إلى قاعدة البيانات الخاصة. كذلك وقّع عطية تفاهماً منفرداً مع السفارة البريطانية من دون اتباع أصول توقيع المعاهدات وتلقى هبة بقيمة 2.5 مليون جنيه استرليني (3 ملايين دولار) من دون موافقة مجلس الوزراء. وSiren التي فتحت لها أبواب التفتيش، انتدبتها السفارة البريطانية للعمل مع التفتيش أيضاً في برنامج لتعزيز الحوكمة، وقد أُدرج الأمر ذلك في بند ضمن العقد الموقع بينهما ينص على أن على التفتيش الاستجابة لطلبات المؤسسة البريطانية «بمرونة وفعالية». وقد بدأ العمل بهذا بالبرنامج منذ 3 سنوات (أيلول 2021) من دون أي اعتراض من أي طرف في الدولة، إلى أن أحالت رئاسة الحكومة ملف التجاوزات إلى ديوان المحاسبة العام الماضي.
وقد أصدر الديوان تقريره منذ أسبوعين حول هذه القضية التي تعني آلاف اللبنانيين وعائلاتهم. ولأن المخالفات متعددة، عالجها الديوان كلّ على حدة ضمن 5 أقسام. في الأول، حدّدت القاضية أبي يونس نطاق صلاحيات التفتيش المركزي في ضوء القوانين والأنظمة. وبحسب المرسوم الاشتراعي رقم 115/1959 يتألف التفتيش من إدارتين: التفتيش المركزي وإدارة الأبحاث والتوجيه. لكن عقب نقل إدارة الأبحاث والتوجيه إلى مجلس الخدمة المدنية، أضيفت مهامها إلى مهام دائرة المعلوماتية في المجلس لتصبح موكلة بجمع المعلومات عن كل ما يدخل ضمن صلاحيات إدارة الأبحاث وتحليلها وترجمتها إلى لغة الكمبيوتر، وإعداد وتنفيذ نظام متكامل للمعلوماتية لدعم كل الوحدات فيها، والقيام بالأعمال الإحصائية على اختلافها. ورأى التقرير أن قيام التفتيش بمهام جرى تحديدها أساساً من قبل المشرع في ظل وجود إدارة الأبحاث والتفتيش ضمن هيكليته وخصّ هذه الأخيرة بها، يكون واقعاً في غير موقعه القانوني. وفي ما خصّ صلاحيات التفتيش في ضوء القوانين الراعية لمشروع «دعم»، يتبين أن مهام التفتيش تقضي بمراقبة آلية عمل الجهة التي تتولى تشغيل البرنامج على المنصة وتحليل وتقييم بيانات الاستفسارات والشكاوى المتلقاة من المواطنين على الخط الساخن. لكن في الواقع، التفتيش هو من يشغّل المنصة ويديرها بالتعاون مع مؤسسة بريطانية غير حكومية، بالتالي هو الخصم والحكم في آن. لذلك، وفقاً للتقرير، «لا يجوز له ممارسة أي نشاط ضمن إطار برنامج أمان أو أي برنامج آخر لم ينص صراحة على دور محدد للتفتيش في قانون إبرامه».
في القسم الثاني، يمرّ التقرير على إشكالية منصة Impact المنشأة في التفتيش المركزي ضمن إطار برنامج الحوكمة والرقابة والمساءلة في لبنان بدعم مالي من الحكومة البريطانية. وتبيّن للديوان أن عطية عرض طلب قبول الدعم التقني من البريطانيين بعد انتهاء مدة العقد، أي بتاريخ 5/4/2022، وأن الملف لا يتضمن رأياً لوزارة الخارجية بشأن توقيع مذكرة التفاهم. إضافة إلى مخالفة التفتيش المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية بعدم استصدار أي قرار بقبول هبة الـ3 ملايين دولار من مجلس الوزراء وعدم تقييدها ضمن واردات الخزينة اللبنانية في قسم الواردات من الموازنة. والأهم، لم يُرفق بالملف أي كشوفات أو مستندات تبيّن وجهة الصرف والإنفاق.
الديوان يوصي بنقل مشروع دعم من التفتيش إلى رئاسة مجلس الوزراء والتحقيق في التلاعب والمحاباة في اختيار المستفيدين


كذلك، أكدّ التقرير على تجاوز التفتيش لدوره عبر تولي الإدارة والتحكم بالمنصة، في مخالفة واضحة لمبدأ الفصل بين المهام الرقابية والتنفيذية. ووجد الديوان أن التفتيش لم يتدخل في إدارة مشروع «دعم» وفي الأعمال التنفيذية لشبكة الأمان، إنما تم تكليفه الإشراف والرقابة على الشركة المتخصصة إنشاء وتشغيل البوابة الإلكترونية أي Siren، علماً أن الشركة هي أيضاً من يقدم الدعم والمؤازرة في إدارة التفتيش للقيام بأعمال الرقابة بتمويل من السفارة البريطانية. مع ما يتيح ذلك للشركة من الوصول إلى البيانات الخاصة بالمواطنين والولوج إليها. ويشير التقرير في توصياته إلى أن المهام الإدارية للمشروع بكل تفاصيله يجب أن تتولاه قانوناً وحدة الإدارة المركزية في رئاسة مجلس الوزراء لا التفتيش المركزي. أما لجهة التلاعب والمحاباة في اختيار المستفيدين من برنامج شبكة الأمان الاجتماعي، فرأى التقرير وجوب التوسع في التحقيق ضمن ملف مستقل للتثبت من عدم حصول إساءة أو هدر للمال العام. وختم الديوان تقريره بمعالجة مسألة تسريب البيانات وعدم اتباع إجراءات الأمان في حمايتها، مشيراً إلى ثبوت عدم امتلاك التفتيش وحده القدرات الفنية والتقنية والبشرية لإدارة المشروع، وبالتالي كان يفترض عليه عدم الإجازة لشركات خاصة الاطلاع على البيانات قبل أخذ موافقة مجلس الوزراء والأجهزة الأمنية. ودعا التقرير التفتيش إلى التقيّد بالنصوص الدستورية لناحية مذكرات التفاهم ومراسيم قبول الهبات وعدم تجاوز الصلاحيات والخلط بين المهام، وعدم الإخلال بأمن الدولة وتسريب معلومات تتعلق بأمور شخصية من دون إذن.