قصيدة غزل في مصر، تضمنتها تصريحات نسبتها فضائية «الميادين» إلى «مسؤول إيراني رفيع»؛ طهران تقدّر تبني القاهرة للمطالب الفلسطينية، وترجو تعزيز العلاقات بينها وبين فصائل المقاومة، وتؤيد دورها، وترفض أيّ تدخل في مسار المفاوضات «المهمة والحساسة»، التي تجريها القيادة المصرية حول غزة. يعني ذلك، باختصار، أن ملف غزة، وتاليا الملف الفلسطيني كله، يقع، بالنسبة إلى محور المقاومة، بين يدي المصريين حصريا؛ بذلك، لم يعد هناك من معنى سياسي للهجمات الطفولية التي تولّاها الكثيرون ضد نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، عن وعي لخدمة الإخوان وقطر وتركيا، أو عن سذاجة قوموية لا تزال تنظر إلى مصر نظرة عاطفية مفجوعة.
لمصر حضور ودور، ولكن لقدرتها، أيضا، حدود ملزوزة بمصالحها الوطنية (المحلية) ومشكلاتها الاقتصادية والسكانية والأمنية، وشللها التنموي والثقافي، إضافة إلى أنها تواجه تحدي التمرد الإخواني الرجعي التخريبي والمتواصل مع التحدي الإرهابي. وهذا كله يقيّد أي نظام يحكم مصر الآن بقيود واقعية ثقيلة، ويدفعه نحو الأولويات المحلية كضرورة استراتيجية. وهكذا، ما كان ممكنا، مهما كانت الضغوط العاطفية، أن تقبل القاهرة منح الشرعية لإمارة إخوانية على حدود سيناء. في المقابل، لم يتوان المصريون عن تبني كامل المطالب الفلسطينية، والدفاع عنها، حالما تحولت حماس من عنوان سياسي ـ يمثل، في النهاية، المحور القطري التركي ـ إلى شريك في اجماع فلسطيني يجدد الشرعية الفلسطينية، ويحوّل الرئيس محمود عباس من طرف إلى مظلة.
بالمحصلة، كان هناك خاسر في غزة، ورابحان بين المحاور الثلاثة التي تتصارع على المستوى الإقليمي في كل الملفات المتداخلة؛ خسر المحور القطري التركي، وفشلت محاولات استغلال المقاومة البطولية في غزة لتعويم الإخوان المسلمين. وبالمقابل، ربحت مصر وإيران؛ الأولى تأكيد وحدانية دورها في الشأن الفلسطيني، والثانية انتقال قوى المقاومة المرتبطة بطهران ودمشق، من الحضور الميداني إلى الحضور السياسي والمشاركة في النظام السياسي الفلسطيني الجديد الذي يتشكل على أساس الإجماع الوطني.
نظرة مصر السيسي الاستراتيجية، تتخطى، واقعيا، معاهدة كامب ديفيد؛ هذا التخطي ليس إرادويا ولا ثوريا ولا قوميا، إنما يعكس التبدل في موازين القوى الإقليمية والدولية والتغيرات المصرية الداخلية منذ 25 يناير 2011، والاحتياجات الملحة لإنقاذ مصر من التحلل الشامل، وعلى رأس تلك الاحتياجات: (1) استعادة السيادة على سيناء في مواجهة امكانية تحولها إلى إمارة إرهابية. وهذا مسعى يحظى بدعم إقليمي ودولي، (2) إقامة علاقات متوازنة، في المجالات الاقتصادية والدفاعية، بين الغرب وروسيا،(3) وإحياء المداخلات المصرية المستقلة في الشؤون الإقليمية، لتحقيق مصالح وطنية (4) وأثناء ذلك الاعتماد المالي والسياسي على دعم السعودية، الشريك الأكبر للولايات المتحدة في المنطقة، (4) لكن من دون الخضوع للسياسات السعودية؛ فمصر السيسي تدعم نظام الرئيس بشار الأسد، وتقيم علاقات، سرية ولكن عميقة، مع دمشق، بينما فتحت الباب أمام علاقات علنية ومفتوحة الآفاق مع بغداد. ولعله بلا عقل سياسي، مَن يهوّن من اعلان السيسي، رئيس أكبر دولة عربية سنية، عن دعمه الكامل لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في مواجهة ما جرى وصفها بأنها «ثورة سنية»، مدعومة من السعودية والإمارات، اللتين يعتمد عليهما السيسي في الحصول على مساعدات مالية ملحة.
السيسي ، بالطبع، ليس قوميا عربيا. والعروبة، بالأساس، مرحلة طارئة في السياسة والثقافة المصرية، اقتضتها احتياجات الحقبة الناصرية القصيرة العمر ( 1952ـ 1970). وعلينا أن نكف، من الآن وصاعدا، عن أوهام «مصر التي في خاطري»، لكي نقرأ مصر التي في الواقع الفعلي؛ سوف يكون لها دور إيجابي ـــ ملزوز بمصالحها ـ عربيا وإقليميا، ولكنها لن تكون، بعد، في قيادة حركة تحررية عربية. وعلى من يهمه الأمر أن يتجه صوب دمشق، المؤهلة، بتكوينها العضوي ومصالحها الكيانية الاستراتيجية، لقيادة التحرر العربي.
سيكون لمصر السيسي دور مهم جدا في إطفاء النزاع السني ـــ الشيعي؛ فالنظام المصري الجديد معاد للإسلام السياسي، بل أكثر؛ إنه يعمل على خفض مستوى حضور الدين في حياة المصريين. وهذه المهمة، تتطلب، موضوعيا، كسر التعصّب المذهبي الذي هو، في النهاية، نتاج التعصب الديني والخلط بين الدين والسياسة.
لا تستطيع إسرائيل ـــ التي تتراجع قدراتها في الردع والتأثير السياسي معا ـــ أن تدير ظهرها لمصر، وخصوصا في الشأن الفلسطيني، مما يفتح الباب أمام تسوية تشكّلها التطورات الواقعية؛ الفلسطينيون، اليوم، ليسوا كما كانوا قبل غزة 2014؛ لقد أثبتوا أنهم قادرون على القتال والصمود، ولا يمكن إلغاؤهم، كما أظهروا، أخيرا، تمتعهم بحس المسؤولية التاريخية إزاء شعبهم وقضيتهم، حين مضوا في خطوة أولى نحو اجماع وطني، وإذا ما تمكنوا من إنشاء نظام سياسي يقوم على الشراكة والتوافق، فسوف يتمكنون من تحقيق انجازات؛ الفرصة متاحة الآن، أسستها مقاومة غزة البطولية، ويرعاها تفاهم إيراني مصري مستجد، ولكنه مفتوح الآفاق، بما يعكس مصالح الدولتين، ويسهل التوصل إلى حلول ممكنة في جميع الملفات الإقليمية.