ينقل أحد المصرفيين عن مسؤول أجنبي، استغرابه كيفية استمرار النظام الاقتصادي في لبنان من دون أن ينهار. مردّ الاستغراب، أن لبنان يستورد نحو 6 أضعاف ما يصدّره، وهذا الأمر «أدّى إلى انهيار عدد من الدول وإفلاسها». قد يُفهم من هذا الكلام أن لبنان أسّس نموذجاً يتحدّى الانهيار، إلا أنه في الواقع، يُغفل أن هذا النموذج سلك مساراً يعتمد على التمويل الخارجي الذي يقوّض محرّكات النموّ الأساسية، إذ إنه يخبئ الهشاشة التي تصيب الاقتصاد تحت رماد عناوين افتراضية مثل «الثقة» و«الاستقرار السياسي»، ثم يتكشّف الأمر عندما تصبح الثقة عرضة للانتكاسات السياسية.

مؤشّرات الهشاشة
يتفق نحاس وباز على أن العلاج الجدي يكمن في زيادة التصدير

عملياً، تظهر الهشاشة من خلال عدد من المؤشرات؛ أبرزها ميزان المدفوعات الذي يعبّر عن صافي حركة تبادلات لبنان مع الخارج، سواء كانت على شكل سلع وخدمات وعناصر إنتاج، أو تحويلات مالية، أو استثمارات أجنبية مباشرة. وبحسب الإحصاءات الصادرة عن مصرف لبنان، فإن نتائج ميزان المدفوعات على مدى السنوات الخمس الماضية، أي منذ انفجار الأزمة السورية في 2011، سجّلت عجزاً متراكماً بلغت قيمته في نهاية عام 2015 نحو 8.6 مليارات دولار. وتشير الإحصاءات إلى أن 3 مليارات دولار من أصل العجز المتراكم مسجّلة في عام 2015 وحده، ما يعني أن قدرة الاقتصاد اللبناني على الصمود صارت أضعف بعدما استنزف جزء من الفوائض المجمّعة خلال الفترة الممتدة بين 2008 و2010 حين كان ميزان المدفوعات إيجابياً.
وتزداد أهمية ميزان المدفوعات في ظل مجموعة متغيّرات؛ أبرزها انخفاض أسعار النفط وانخفاض سعر صرف اليورو مقابل الدولار. فهذان العنصران يسلّطان الضوء على أهم العناصر المكوّنة لميزان المدفوعات، أي على الميزان التجاري وعلى تحويلات اللبنانيين المغتربين، وذلك على النحو الآتي:
ــ كانت فاتورة استيراد النفط تساوي أكثر من 30% من الواردات في عام 2011، لكنها تراجعت إلى أقلّ من 23% من الواردات بسبب انخفاض أسعار النفط.
ــ تعدّ أسعار النفط مؤشراً أساسياً على انتعاش أو ضعف النموّ الاقتصادي في الدول النفطية التي تشكّل مصدراً أساسياً لتحويلات المغتربين.
ــ يستودر لبنان قسماً كبيراً من السلع المستهلكة محلياً من الدول الأوروبية، وبالتالي فإن انخفاض سعر صرف اليورو يفترض أن يكون له أثر إيجابي على كلفة الاستيراد.

استنزاف الأسر

المفارقة أن ميزان المدفوعات سجّل عجزاً بقيمة 3 مليارات دولار رغم تراجع أسعار النفط الذي أدّى إلى انخفاض عجز الميزان التجاري في عام 2015 بقيمة ملياري دولار من 17 ملياراً في 2014 إلى 15 ملياراً في 2015. وقد نجم هذا الانخفاض في العجز التجاري عن تراجع قيمة الواردات من 20.5 مليار دولار في 2014 إلى 18 مليار دولار في عام 2015، مقابل تراجع أقل في الصادرات من 3.3 مليارات دولار إلى 2.9 مليار دولار.
لهذا الأمر أسبابه. فبحسب مدير التخطيط الاستراتيجي والمالي في بنك عوده، فريدي باز، أن انخفاض أسعار النفط أدّى في عام 2015 إلى تراجع في حركة رؤوس الأموال الوافدة إلى لبنان بنسبة 27%. أي أن انخفاض أسعار النفط وانعكاسه على فاتورة الاستيراد تزامن مع تراجع في حركة رؤوس الأموال التي تشمل تحويلات المغتربين والاستثمارات المباشرة.
وأهمية حركة رؤوس الأموال الوافدة، وفق باز، أنها تعزّز الدخل المتاح للأسر اللبنانية نسبة إلى الدخل المحلي. وهذا الأمر يظهر بوضوح من خلال الإحصاءات الكلية التي تشير إلى أن حركة الاستيراد تمثّل 50% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما استهلاك الأسر يوازي 80% من الناتج المحلي الإجمالي. أي أن الدخل المحلّي ليس كافياً لتغطية حاجات الأسر التي تحصل على مبالغ إضافية من الخارج لتمويل مشترياتها «الفرق بين الدخل المتاح (الفعلي) والدخل المحلي يبلغ 40%».
يستنتج من كلام باز، أن تراجع حركة رؤوس الأموال انعكس تراجعاً في الدخل الفعلي للأسر وأثّر سلباً على قدرتها الشرائية الفعلية. وبالتالي فإن تأثير انخفاض أسعار النفط لا يطال فقط رواتب وأجور وعائدات اللبنانيين العاملين في دول الخليج، بل يطال الأسر اللبنانية التي يصل عددها إلى 800 ألف أسرة.
ويشير باز، بالاستناد إلى دراسة للبنك الدولي، إلى أن لبنان سجّل أعلى ترابط كبير بين سعر النفط وبين حركة رؤوس الأموال الوافدة، وهو أعلى من الترابط بين حركة رؤوس الأموال والأوضاع السياسية. ويشير إلى أن المصادر الأساسية لحركة رؤوس الأموال هي ثلاثة: أفريقيا الوسطى، أوستراليا ودول الخليج.
رغم ذلك، ليس واضحاً حجم تأثير عجز ميزان المدفوعات تزامناً مع تراجع أسعار النفط وانعكاسها الإيجابي على الميزان التجاري، فميزان المدفوعات لا يقيس مستوى معيشة اللبنانيين فقط، بل يقيس أيضاً حجم الإنتاج المحلي والقدرة على التصدير وإيجاد أسواق خارجية، وقدرة «النموذج» على الصمود في مواجهة الأزمات.
استنزاف الموجودات
الوزير السابق شربل نحاس، يرى أن تسجيل ميزان المدفوعات نتيجة سلبية، للسنة الخامسة على التوالي، يعني أن لبنان سيعمل على تغطية حاجاته من خلال استعمال الفائض المحقق سابقاً أو من خلال تحفيز تدفق العملات الأجنبية من الخارج. «في كل الأحوال، إن عجز ميزان المدفوعات يعني أن تغطيته جرت عبر استعمال الموجودات الصافية بالعملات الأجنبية والتي يحملها مصرف لبنان والمصارف اللبنانية. هذه الموجودات، هي مبالغ جمّعها مصرف لبنان خلال فترات الفائض ويوظّفها خارج لبنان، وبالتالي كلما استنفدت هذه الموجودات تضاءلت قدرة النموذج على الصمود». وما يفاقم صعوبة الوضع هو تراجع عجز الميزان التجاري بعدما انخفضت حركة الاستيراد بنسبة أعلى من نسبة تراجع التصدير، فهذا يعني «أن الوفر الذي حققه لبنان من تراجع أسعار النفط لا يستطيع أن يعوّض النقص».

علاج غير متاح

ميزان المدفوعات هو إحدى أهم علامات الضعف في النموذج الاقتصادي اللبناني القائم على التمويل الخارجي. هو نموذج يواصل مساره على حافة الانهيار ولا يتطلّب مهارات واسعة، بل يكرّس الاستسلام للتدفقات الخارجية، وما يترتب عليها من رفع الكلفة المحلية. فالحاجة إلى استمرار التدفقات تتطلب رفع أسعار الفائدة، وهو ما سينعكس مباشرة على كلفة الدين العام للدولة الذي تجاوز 110 مليارات دولار (يختلف عن الدين العام الحكومي الذي بلغ 70 مليار دولار ويشمل دين مصرف لبنان للمصارف).
الأخطر في ذلك كلّه أن مسار الفوائد العالمية على ارتفاع، وبالتالي فإن ارتفاع أسعار الفائدة قد ينعكس محلياً خلال فترة قريبة عندما تقلّ الهوامش بين سعر الفائدة المحلية وسعر الفائدة العالمية.
إذاً، ما هو العلاج؟ يميّز نحاس بين نوعين من العلاج؛ الأول هو علاج على هامش المشكلة وهو يتضمن ترقيع النموذج في اتجاه استمرارية استقطاب رؤوس الأموال وتمويل العجز المالي، والثاني هو علاج في أصل المشكلة الذي يتطلّب البحث في كيفية زيادة التصدير للتخفيف من الاعتماد على التدفقات الخارجية ولتوفير عملات أجنبية متأتية من بيع البضائع المنتجة محلياً في الخارج.
يستند باز إلى المعطيات الإحصائية نفسها ليخرج باستنتاج شبيه، ولكن اكثر حذرا. باز يعتقد أن هناك توازناً استراتيجياً بين التدفقات الخارجية وبين الحاجة لتغطية العجز في الميزان التجاري، «وهذا لا يترك أمامنا سوى خيار واحد؛ الحفاظ على التوازن في انتظار إيجاد البديل المناسب الذي يوفّر الحاجات وينسجم أكثر مع أوضاع الاقتصاد. لا يمكن ضرب هذا التوازن اليوم لأن ذلك سيؤدي إلى ضرب القدرة الشرائية. أما البديل فلا يمكن إيجاده بهذه السرعة والسهولة، فالأمر يتطلب تطوير النسيج الصناعي اللبناني لتكون محرّكات النموّ هي التصدير والطلب الخارجي، وهذا مشروع طويل الأمد يتطلب عقداً اجتماعياً جديداً وتوافقاً سياسياً يشمل كل الطبقة السياسية.
ببساطة، العلاج الطويل الأمد عند باز ونحاس غير متاح حالياً. البقاء للنموذج واستمراريته.




سلامة: التحويلات انخفضت ملياري دولار

قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أمس، إن «الوضع المالي في لبنان هو ضمن الرقابة الدقيقة»، وأشار الى «أن عام 2016 سيكون كعام 2015، ولكن لدينا ما يكفي لتقطيع المرحلة من دون أزمات، علماً بأن النمو عام 2015 كان بين صفر وواحد في المئة، ولكننا لا نزال أفضل من غيرنا، وخصوصاً أن الأسواق الناشئة، التي شهدت انهيارات كثيرة كما حال البرازيل، تركيا، مصر ونيجبريا، وانخفاض أسعار النفط، أديا الى انخفاض الميزانية في السعودية بمقدار 100 مليار مع عجز وصل الى 130 مليار دولار، لذلك السيولة أقل في المنطقة برمتها». وقال إن «التحويلات الى لبنان انخفضت ملياري دولار، وذلك بسبب الأوضاع التي تشهدها المنطقة وانخفاض أسعار النفط العالمية». وطمأن سلامة الى «أننا لن نرى انهيارات في لبنان، لأن المصرف المركزي يتخذ الإجراءات المناسبة لمنع ذلك».
وكان سلامة قد التقى وفداً من تجمع رجال الأعمال اللبنانيين، برئاسة فؤاد زمكحل، الذي تحدّث عن «الضرورة العاجلة لضخ مبلغ 1,5 مليار دولار (على الأقل) في السوق اللبنانية وفي أقرب وقت ممكن، والذي سيكون له تأثير مباشر على الطلب وسيعطي أيضاً دفعة إيجابية لنمو البلد، الذي يعرج ويتقلب بصعوبة بين نسبة 0 و1% منذ 4 أعوام على التوالي». وأشار زمكحل الى أن دين القطاع الخاص البالغ 55 ملياراً، أي ما يعادل 110% بالمقارنة مع حجم «الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، لذا من المهم مساعدة القطاع الخاص اللبناني ليس فقط على إعادة جدولة ديونه بانتظار مرور الأزمة الاقتصادية، ولكن على إعادة هيكلة ديونه من خلال تدفق الاستثمارات الخارجية وجذب المستثمرين اللبنانيين المغتربين وحثهم على الاستثمار ليس فقط في القطاع العقاري والمنتجات المالية، بل أيضاً في رأسمال الشركات المحلية الخاصة».