هناك شيءٌ ناقص في التّعاطف مع مسيحيّي الموصل في نكبتهم إن لم يكن هذا التّضامن واعياً للاطار الأعمّ الّذي انتج التّهجير. كيفما قلّبنا الصّورة في المشرق اليوم، وبغضّ النّظر عن المنطلقات السّياسيّة، فإنّ هناك واقعا واضحا لم يعد من الممكن تفاديه أو تجاهله: مساحاتٌ واسعة من سوريا والعراق خضعت برمّتها لـ«تطهيرٍ طائفيّ» شامل طاول كلّ من يمكن اعتباره «اقلّيّة» فيها. وهذه عمليّة انطلقت قبل صعود «الدّولة الاسلاميّة» ولم تكن مقتصرة عليها.
لهذا السّبب، يصير نقد «داعش» في بعض الحالات امراً سلبيّاً، فـ«الدّولة» أصبحت الكاريكاتور الّذي يعاديه الجّميع، وأضحت المثال «الأكثر تطرّفاً» الّذي يُخفي خلفه كلّ النّسخ السابقة الّتي أوصلت اليه. من يناقش «داعش» باعتبارها «استثناءً» يُغفل تاريخيّتها، والسّببية الواضحة بين صعود قوىً كـ«الدولة» وانتشار الخطاب الطائفي الكاره في العشريّة الاخيرة، حتّى صار شائعاً في الاعلام العربي «المحترم»، وصار كبار رجال الدّين في الأمّة يلقون خطب تحريض لا تليق الّا بالقرون الوسطى (غير أنّها منقولةٌ على الفضائيّات).
البعض في بلادنا ما زال يتوهّم أنّ العنصريّة والطّائفيّة والتعصّب الدّيني هي أمورٌ مختلفة نوعيّاً بعضها عن بعض، وأنّ بالامكان استخدام هذه النّزعات وترويضها والتّحكّم فيها. والبعض الآخر ما زال يرفض الاعتراف بالواقع الّذي لا يناسبه، فيحاجج العديد من المثقّفين، مثلاً، بأنّ «داعش» وليدة سياسات النّظام السّوري، مكرّرين الّلازمات نفسها عن تمرير الجهاديّين الى العراق واخراج المعتقلين من السّجون، وهم يرون انّهم قدّموا حجّةً وسرديّة (هي في الحقيقة، المقابل الاكاديمي لمقولة «داعش صنيعة استخبارات النّظام»).
إنّ من يتعامى عن واقعه الى هذه الدّرجة، من الطّبيعي أن تفاجئه «داعش»، ولكن، بعدما وصل الأمر الى حدّ اعتناق الافكار الاباديّة، أضحى من الطبيعي لنا، نحن أهل هذه الأرض، أن نحمي أنفسنا ومجتمعاتنا من هذا الخطر، وأن نشير بوضوح الى هذه المنظومة التحريضيّة، والى منابعها الفكريّة والعمليّة في الخليج – منذ ايّام الزّرقاوي. التّعامل مع هذا الخطاب، كما ثبت بالتّجربة، لا يكون بمسايرته، أو بالتّفاوض معه، أو بمواساة ضحاياه، بل بعقد قطيعة تاريخيّة، معه ومع صانعيه، ومنعه، بكلّ الوسائل، من الاستيطان في بلادنا.