بالمعنى العسكري والاستراتيجي، تتلخّص امثولة حرب غزّة في العبارات المرتبكة التي قالها الجندي الإسرائيلي لصحيفة «هآرتس» اثر معركة الشجاعيّة: «إنهم يقفون ويقاتلون، هم لا يذوبون امامنا كما في السابق!». هناك رأيٌ قديم في الدوائر العسكريّة يحاجج بأنّ التّقدير العالي الذي يحظى به الجيش الاسرائيلي مبالغٌ فيه الى حدٍّ بعيد، وأنّ الانتصارات «الماحقة» التي حقّقها في الخمسينيات والستينيات كانت كلّها تدور في غياب عدوٍّ جدّي، أو في وجه جيوش منسحبة، أو في ظلّ تفوّق نوعيّ كاسح.
للمرّة الأولى منذ عام 1948 يواجه الجيش الإسرائيلي، على أرض فلسطين التاريخيّة، قوّةً قادرة على «الوقوف والقتال»، وايقاع خسائر رهيبة في صفوفه، ورسم حدود لقدرته العسكريّة. نحن هنا لا نتكلّم على القتال بمعنى «الوقفة الأخيرة»، كحالات الصمود البطولي في جنين وقلعة الشقيف وعين الحلوة، فـ«الوقفة الأخيرة» قد تنمّ عن شجاعة فائقة، واصرارٍ على تكبيد العدوّ أثماناً باهظة، غير أنّ نتيجتها معروفة: المُدافع المُحاصر والمعزول يُهزم دائماً في آخر الأمر.
في غزّة اليوم مقاومة تقاتل من أجل النّصر، وتعرف كيف تستنزف العدوّ، وتعتمد اقتصاداً للعنف والقوّة الناريّة. هذا يعني أمرين، أوّلاً، أنّ الكابوس الذي تخشاه اسرائيل منذ عام 2006 قد تحقّق، و– ثانياً - أنّه لن يتمكّن أيّ خسيس بعد اليوم من الادّعاء بأن الفلسطينيّين ليسوا مستعدّين للقتال دفاعاً عن أرضهم، وعن التّضحية بكلّ شيء من أجلها.
صورة «الجيش الاسرائيلي المتفوّق» ليست وليدة الدعاية الاسرائيليّة واعوانها العرب فحسب، بل هي أيضاً نتاج الثّقافة الاميركيّة وسينما «هوليوود»، التي كرّست الاسرائيليّين، بعد عام 1967، أسياداً للحرب (الباحثة الاميركيّة «ميلاني ماكاليستر» كتبت عن حاجة الثقافة الشعبيّة الأميركيّة، بعد هزيمة فييتنام، الى التماثل مع صورة مقاتل غربيٍّ منتصر، تعويضاً عن ذكورة اميركيّة مفقودة)، ولكنّ المعركة تبدّد الأوهام والزّيف، وحين يواجه الاسرائيليّون خصماً جديّاً، يعرف عوامل قوّتهم وثغرهم، تبدأ نقاط الضّعف بالانكشاف، من غياب العمق الجغرافي الى نقص الموارد البشريّة – وهنا تبدأ الحرب الحقيقيّة.