يثبت أبو أحمد قبضة يده اليمنى تحت ذقنه، ويرخي رأسه وحاجبيه المقطبين. فالخروج من عرسال إلى اللبوة مع أشعة الفجر الأولى وزخات الرصاص والقذائف الكثيفة، وفي رقبته أطفال صغار، يهدّ معنويات الرجل. «الحمد لله على كلّ شيء» يقول، ويعدّل جلوسه على الكرسي لشرب فنجان القهوة الذي «يبرّد الدم» في منزل صديقه القديم في اللبوة، البلدة الملاصقة لعرسال. اللبوة بلدة «شيعية» في لغة التمذهب، وعدد سكانها يتجاوز 10 آلاف نسمة.
وأبو أحمد ليس سوى نازح واحد مع أسرته من بين مئات العراسلة الذين نزحوا في اليومين الماضيين إلى اللبوة والنبي عثمان والعين والجديدة، وغيرها من البلدات المجاورة. شو صار بعرسال؟ ينتفض الرجل فجأة عن كرسيه ويسجد على الأرض، «الله أكبر... طع طع طع»، مقلداً صوت الرصاص! لم يجنّ الرجل، لكنّه يعيد مشهد قتل أحد أبناء عرسال من آل عز الدين، الخمسيني الذي أعدمه التكفيريون قبل نحو شهر وهو يصليّ، باسم الإسلام!
في جعبة أبو أحمد أخبار لا تنضب عن ممارسات المسلحين، الذين «شربوا من بئر عرسال وكبّوا فيها وسخ»، لكنّه يختار الحديث بإسهاب عن سبب اختياره اللبوة، وليس أي مكانٍ آخر.
أكثر من 500
زيجة متبادلة بين
اللبوة وعرسال
في اللبوة أكثر من مئة عائلة تسكن البلدة منذ 20 و30 عاماً على الأقل. أكثر من ذلك، بين اللبوة وعرسال ما لا يقلّ عن 500 زيجة متبادلة، «كُل بيت بعُرسال فيه إلو قرايب باللبوة... هاي المحلات لبيت الحجيري، وهاي محطة البنزين لولاد الضيعة، وأنا محلي بعرسال نص زبوناتي من اللبوة» وهكذا دواليك. «ليك عمي، قبل الحرب بسوريا ما كان حدا يحكي لا سني ولا شيعي، وهلق تلات أرباع أهل عرسال هيك بتفكّر، بس في ناس قليلة أصل وفي ناس مغلوب على أمرها» يقول أبو أحمد. يأخذ صديق العرسالي دوره بالكلام. يعود الرجل إلى المرحلة الماضية، حين وقعت عدة تفجيرات انتحارية في المنطقة وتعرّضت لإطلاق صواريخ، «في عراسلة خافوا وصار بدهم يفلّوا من الضيعة، قلنالهم بتفلو من بيوتكم على بيوتنا... الحمد لله بقيوا وما حدا تعرضلهم».
على مقربة من مفرق عرسال من الطريق العام في اللبوة، يتوسّط رئيس البلدية رامز أمهز مجموعة من شبان البلدة. لا ينكر الشبان ولا «الرّيس» أن بعض أهالي البلدة غادروا خوفاً من انتقال المعارك إليها أيضاً. ولا يخفي الرجال أن بعضهم أرسلوا عائلاتهم إلى خارج اللبوة تحسّباً، وهم بقوا للدفاع عن بيوتهم في حال تطوّر الأمر. «مرتي ما كانت تفلّ، قلتلها إذا استشهدتي بتجوّز غيرك... اقتنعت» يمازح علي الواقفين، فيكسر حدّة الوحشة التي تسببها أصوات القذائف وصافرات سيارات الإسعاف.
لا تجد هنا من يضع الرحيل عن بيته احتمالاً. يكرّر الواقفون، كما حسن، الشاب الممتلئ صاحب محلّ الساندويشات قرب محطة البنزين على مفرق عرسال، أنهم يثقون بالجيش اللبناني، وأنهم هيئوا أسلحتهم الفردية للدفاع عن بلدتهم. من جهته، يقول رئيس البلدية إن «الأهالي حاضرون خلف الجيش لتلبية كل ما يطلبه، وحاضرون لاحتضان النازحين من عرسال في كل بيوت اللبوة».
كلم أو أقل، محلّ أبو خالد، العرسالي الأربعيني الذي يسكن اللبوة منذ 20 عاماً. الحزن يغلّف معالم الوجه المدوّر، فصباح أمس، لم يتبق لأبو خالد من ينده عليه «خالي»، ولم يستطع هو أن يودّع بنات شقيقته وزوجها حسن حسين الحجيري الذين قتلهم المسلحون أثناء محاولتهم الهرب من عرسال. وصل إلى بيت أبو خالد في اللبوة أقارب كثر هرباً من المعارك واعتداءات المسلحين. يطيّب عبدو أمهز خاطر صديقه العرسالي، «يا أخي إذا هيدا الإسلام، بَطَلَّنا... الله لا يوفقهم»، يقول أبو خالد.
بعد اللبوة، المزاج نفسه والظروف نفسها تسود في النبي عثمان، البلدة التي يسكنها 8 آلاف نسمة. أصيبت النبي عثمان بتفجير انتحاري قبل أشهر، وتتعرّض دائماً لإطلاق الصواريخ العشوائية من جرود عرسال، آخرها بعد ظهر أمس. يقول رضا، أحد أبناء النبي عثمان قرب محلات نزها في مدخل البلدة، إنه وإخوته «جاهزون لملاقاة المسلحين في الجبال ومساعدة الجيش اللبناني، ونحن لن نترك بيوتنا أبداً، لا قطع الرؤوس ولا التشنيع بالجثث يخيفنا».
وليس بعيداً عن اللبوة والنبي عثمان، أصوات القذائف والاشتباكات تدوّي بين بيوت بلدة راس بعلبك وكنائسها. في الساحة الرئيسة، خمسة كهول يلفون رؤوسهم بالكوفيات و«الحطّات» البيضاء، يحتمون من الشمس تحت سقف «المصطبة». لا يُنصت أبو واكيم لما يقوله أترابه عن ضرورة حفظ لسانه من الشتائم أمام الصحافة. «نحن والعراسلة كنّا أهل قبل ما يجوا هالعكاريت، ورح يفلّو ونرجع أهل»، يقول الكهل الظريف. ويشبّه حال البلاد كحال الطقس «العاطل»، ففي اعتقاده أن طقس الأعوام الماضية سببه انتهاء دور العقلاء لصالح «قاطعي الرؤوس ومدّعي الإسلام الصحراوي».
في راس بعلبك، لا يبدو أن أحداً سيلبّي دعوة «سيّدنا البطريرك بشارة الراعي للحوار مع داعش... كيف بدنا نحاور داعش؟» يقول الأستاذ توفيق منصور. يقطن البلدة حوالي ثلاثة آلاف نسمة في الشتاء، ويرتفع العدد إلى 5000 في فصل الصيف. من منزل منصور، يمكنك أن ترى جزءاً وفيراً من جرد راس بعلبك الموصول بجرد عرسال وتسمع أيضاً رشقات رشاشات الجيش اللبناني الثقيلة. «لن يتكرّر هنا مشهد الموصل» يقول صديق منصور المدرّس الثانوي ريمون غضبان، «الحرب قايمة قاعدة والناس عم تتجوز وتلبّس بيوتها حجر». مدير الثانوية الياس نصرالله ليس أقل حدّة من صديقيه، «الحوار الوحيد مع داعش هو لغة الرصاص، هؤلاء ضد الإسلام والمسيحيين والدروز وكل مكونات الشعب، ولا دواء لهم سوى الجيش اللبناني والمقاومة». يعبّر الأستاذ الياس عن انزعاجه الشديد من الشائعات التي تروّج أن أهالي راس بعلبك ينزحون، «من يومين كان في عرس، والناس فالة، قالوا أهالي الراس عم يفلّو، ما حدا رح يفلّ من هون، نحنا باقيين ببيوتنا»، «هودي مش مسلمين، هودي إنسان ما قبل الحجري، الإسلام اللي نحن منعرفو هوي الناس الطيبة بكلّ البقاع الشمالي»، يقول الأستاذ.
لا تقتصر حماسة الدفاع الشعبي عن القرى على اللبوة والنبي عثمان. يقول جورج، أحد المهندسين الشباب في البلدة، إنه ورفاقه جاهزون لحمل السلاح والدفاع عن بيوتهم. ولا يخفي أن القوميين وبعض العونيين في البلدة إلى جانب عناصر «سرايا المقاومة»، حملوا السلاح في الفترة الماضية وحرسوا البلدة من جهة الجرود خوفاً من تسلل الإرهابيين، بعد معلومات عن نيّة المسلحين اختطاف عدد من الأهالي أو ارتكاب مجزرة لدفعهم الى الرحيل.
قلق إضافي آخر في راس بعلبك، فأحد العسكريين المختطفين من عديد قوى الامن الداخلي هو ابن مخايل مراد، الذي اختطفه المسلحون قبل نحو شهر ولم يطلقوا سراحه إلّا بعد دفع أهله فدية كبيرة.
الأسئلة كثيرة في القرى المحيطة بعرسال، جنباً إلى جنب مع إرادة المواجهة والوقوف خلف الجيش. هل اقترب الخراب السوري من البقاع الشمالي إلى هذا الحدّ؟ وماذا ينجّي المنطقة التي لم تعرف «ضربة كفّ» طوال مدّة الحرب الأهلية؟ الزمن كفيلٌ بالإجابات.