يكفي أن يكون العقيد نور الدين الجمل ابن الطريق الجديدة ليكون «قبضاي»، وليرحل شهيداً مدافعاً عن وطنه.هذا هو «الصيت» الذي اعتادت الطريق الجديدة أن تمنحه لأولادها: بطولة ودفاع عن المظلوم وتصدّ للمسؤولية. هذا هو تاريخها، وليس ما بات منتشراً عن المنطقة بهمّة وسائل الإعلام التي ينقم الكثير من الأهالي عليها، ويحمّلونها مسؤولية كلّ الإساءات التي توجّه إليهم. وأول من أمس، كانت نقمتهم إضافية. لا يمكن أن تكون صدمتهم بتلقي خبر استشهاد الرجل الذي كبر بينهم طفلاً، ثم فتى يافعاً لاحقوه لاعباً لكرة القدم في الملاعب، ثم ضابطاً متواضعاً يفاخرون به، خبراً عاجلاً يحمل عنوان «توتر أمني»، أو «استنفار» أو «إطلاق نار»...

«كيف يمكن أن يتلقى أبناء أي منطقة أخرى خبراً مماثلاً؟» لا يكتفون بالسؤال، يقترحون البدائل: «لماذا لا يقولون إننا كنا غاضبين، إننا حزينون. إننا خسرنا خسارة كبيرة. لماذا يبحثون عن التوتر والتخويف؟ من يخدمون بهذه الطريقة؟ ماذا يعتقدون أنهم فاعلون؟». برأيهم «هناك صورة سلبية يريدون إلصاقها بمنطقتنا، ونجحوا في ذلك كما نجحوا في تخويفنا من مناطق أخرى في لبنان».
لا يستثنون أي وسيلة إعلامية. من تلك المحطة التي «تكتب مقدّمات تشحن النفوس»، إلى القناة التي «يمونون عليها» وكان «يجب أن تودّع الراحل بتقرير أفضل من الذي بثّته. تقرير يعطيه قيمته وليس مجرد خبر تشييع عادي». ذلك أن تشييع الشهيد العقيد المغوار نور الدين الجمل لم يكن عادياً أمس. سار المئات في جنازته مصدومين، من عائشة بكار إلى جامع الخاشقجي قبل أن يوارى في ثرى جبانة الباشورة. بكوه، واستمعوا مراراً وتكراراً إلى ما يقال إنه اللحظات الأخيرة من حياته. هم الذين أمضوا نهاراً طويلاً من الانتظار على وقع الشائعات القادمة من عرسال، وكان أكثرها إيلاماً ما تردّد أن المسلّحين ردوا على اتصال والدته به وأبلغوها أن ابنها تحوّل إلى «قطع». لذا حرص كلّ من شاهد الجثة أمس على التأكيد أنها سليمة إلا من طلقة في الوجه.
لكن «التوتر» الذي عاشته المنطقة لساعات، لم يمرّ من دون تداعيات لحظة إعلان خبر الاستشهاد. كانت الصدمة قاسية، وخصوصاً أنه شقيق مستشار الرئيس سعد الحريري محمود الجمل.
نال بعض السوريين
حصتهم من الغضب
عقب انتشار الخبر
لم يصدّق الكثيرون كيف يمكن أن يتصرّف «السوريون» مع من حماهم ودعمهم بهذه الطريقة. فكان لعدد من السوريين المقيمين في المنطقة حصتهم من الغضب ليل أول من أمس، قبل أن تتدخل القوى الأمنية وتدافع عنهم. لكن «كلّ هذا حصل بسرعة ونتيجة الانفعال، واستعادت بعده المنطقة هدوءها»، يقول أحد الذين شهدوا على وصول الخبر ليلاً. يضيف: «صحيح، تجمّعنا في الشارع وارتفعت الأصوات، وكان هناك ظهور مسلّح من قبل البعض، لكني أقسم إنه لم يحصل إطلاق نار».
أسوأ ما حصل برأيه هو ما تعرّض له عدد من السوريين المقيمين في المنطقة. «وهذا أمر لم يعد يمكن تفاديه. ما يحصل لا يمكنه إلا أن يولّد هذا النوع من ردود الفعل» يقول من دون أي محاولة للتبرير «بل أنا أشرح لك الواقع. يجب أن يعرف السوريون أيضاً أنهم يحصدون ما زرعوه».
قد تبدو هذه العبارة نافرة في البداية، لكنها عندما تتكرّر على أكثر من لسان في الشارع، يصبح الأمر مثيراً للارتباك. أمس، بعد تشييع الشهيد الجمل، انطلقت التحليلات التي لا توفّر أحداً من الاتهامات. صحيح أنك تستمع مثلاً إلى من يحمّل مسؤولية استشهاد الجمل إلى طرف لبناني لا يحدّده: «الكلّ توقّع هذه النهاية للعقيد الجمل منذ قرار تعيينه قائداً للواء الثامن في البقاع. لماذا أرسلوه إلى هناك؟ ما علاقته هو بالبقاع؟». لكن هذا التعليق يمرّ عابراً. الغالبية ناقمة على «ناكري الجميل». يقول أحد الشبان إنه بات يجب الاعتراف بخطأ مساعدة المسلّحين السوريين المفرطة «ما جعلهم يعتقدون أنهم هم أصحاب الدار ونحن الضيوف». وفيما يستعيد آخر التجربة مع الفلسطينيين، يعود فيستدرك «لكن لا، الفلسطينيون لم يصلوا إلى ما وصل إليه المسلحّون القادمون من سوريا».
يبدو هذا الكلام غريباً على الطريق الجديدة، لكنه قيل أمس من دون تردّد. كان الانفعال يسيطر على السيدة الخمسينية وهي تسأل عن سبب عدم لجوء السوريين إلى أماكن أخرى أكثر أمناً في بلدهم «نحن كنا نتهجّر خلال الحرب من منطقة إلى أخرى. من عاليه إلى البقاع، ومن المتن إلى الإقليم. لماذا لا يفعلون الأمر نفسه. الشام هادئة وآمنة، فليذهبوا إليها». لها أصدقاء في عرسال «التي كلّ ذنبها أنها تصرفت بضمير مع لاجئين من الحرب، فتحوّل أهلها إلى مخطوفين».
هذا الكلام القاسي بحق السوريين عموماً، يعكس قهراً يشعر به الأهالي نتيجة الخسارة الكبيرة التي منوا بها برحيل رجل يعرفه الجميع ويحبونه وآلمهم أن يرحل بهذه الطريقة.
ينقل أحدهم، عن أحد الجنود الناجين وصفه لما حصل بالتالي: «هجموا علينا في المركز بالمئات قادمين من الجبل. شعرت بأنني أمام مشهد من فيلم الرسالة». في إشارة إلى كثرتهم والسرعة التي نزلوا فيها من الجبل «لم يكن ينقصهم إلا ركوب الأحصنة».
لكن هذه تبقى روايات. لا أحد يعرف بعد حقيقة ما حصل. وعائلة الراحل غير راغبة في قول أكثر من عبارة واحدة «لا نعرف شيئاً أكثر من أننا فقدنا الاتصال معه». الصدمة هي الطاغية، الوجوم يحمله كلّ من يدخل البيت معزّياً، ويخرج آسفاً على الرحيل المبكر لـ«القائد» كما يناديه البعض. وعندما ينهمر الكلام عن الطيبة والتواضع والمحبة، تتلألأ الدموع متذكرة التحية الأخيرة والصباح الأخير.
آخر الأحاديث حظي بها ناطور البناية التي يقيم فيها العقيد الجمل صباح الأحد. اتصل به ليطمئن إليه. قبل ذلك بيوم، كان قد ودّعه واعداً إياه بأن يعود ويجد أعمال التجديد في البناية قد انتهت «لأنه وصل ووجد أن الورشة لا تزال قائمة، فسألني: ألم ينته هذا القصر بعد؟». أمس كانت الأعمال منتهية. عادت البناية جديدة بطلائها وبلاطها وبوابتها، لتستقبل الرجل الذي يقيم فيها منذ أربع سنوات شهيداً، من دون أن يرى كيف أصبح المنزل الذي ستقيم فيه عائلته من دونه. ابنتاه الشابتان وطفله ابن السابعة الذي أُخبر أمس أن والده استشهد. الزوجة الثكلى لم تتأكد من الخبر إلا قرابة منتصف ليل أول من أمس، بعدما أمضت النهار مترقبة على وقع الشائعات الأليمة من جهة والرسائل التي تناشد الدعاء بالعودة سالماً من جهة ثانية.
الجمل عاد شهيداً، تاركاً لبنان أيضاً في مهب الشائعات. منهم من ينعاه، ومنهم من يدعو له بالسلامة والنجاة.
في ظروف مماثلة، يجب القول إن «كلّ معتدل يرحل هو خسارة للبنان. إذا استمرّ الحال على ما هو عليه فلن يبقى في البلد إلا المتطرفون، وعندها نقول عليه السلام» كما يقول لنا أحد قبضايات الطريق الجديدة، ومحاربيها القدامى في وجه الاجتياح الإسرائيلي. ينصح بحرقة الحريص، الذي يدرك عجزه: «آن لصوت العقل أن يعلو... لا دم بيننا وبين حزب الله، وهذا يعني أن الحوار ممكن، وهو ما يجب أن نعمل عليه اليوم قبل الغد».