بعد تخفّيهم بشخصيات عملاء يسعون إلى الاستفادة من خدماته، تمكّنت مجموعة من ثلاثة صحافيين من أن تفضح تَل حنان، العميل السابق في القوّات الخاصة الإسرائيلية، والمعروف باسم «غورغي». الأخير قاد فريقاً من الإسرائيليين الذين تلاعبوا بأكثر من ثلاثين انتخابات حول العالم، من خلال القرصنة والتخريب وبثّ المعلومات المضلّلة الآلية عبر وسائل التواصل، في فضيحة قد تسبّب إحراجاً جديداً لدولة الاحتلال، التي تتعرّض لضغوط ديبلوماسية متزايدة في السنوات الأخيرة، بصفتها مصدراً للأسلحة السيبرانية التي يُنظر إليها بوصفها تقويضاً للديموقراطية وحقوق الإنسان حول العالم.تَكشف الصور والمستندات التي تمكّن الصحافيون من تسريبها إلى صحيفة «ذي غارديان» البريطانية، عن تفاصيل استثنائية حول كيفية استخدام المعلومات المضلّلة كسلاح من قِبل «فريق غورغي»، الذي يدير خدمة خاصة تعرِض التدخّل سرّاً في الانتخابات، من دون ترْك أيّ دليل. خلال الحديث معهم، كشف غورغي للصحافيين المتخفّين أن خدماته التي يصفها آخرون بـ»العمليات السوداء» متاحة لوكالات الاستخبارات والحملات السياسية والشركات الخاصة التي تريد التلاعب بالرأي العام بشكل سرّي، مشيراً إلى أنّها استُخدمت في جميع أنحاء أفريقيا وأميركا الجنوبية وأميركا الوسطى والولايات المتحدة وأوروبا.
وبحسب غورغي، فإن فريقه يتألّف من «خرّيجي وكالات حكومية»، يتمتّعون بخبرة في المجال المالي ووسائل التواصل الاجتماعي والحملات الانتخابية، بالإضافة إلى «الحرب النفسية»، وهم يعملون من ستّة مكاتب حول العالم. حضرَ الاجتماعات مع الصحافيين أربعة من زملاء حنان، بمن فيهم شقيقه زوهر حنان، الذي عرّف عن نفسه بالرئيس التنفيذي للمجموعة. وخلال اللقاءات، زعم غورغي أن مجموعته منخرطة حالياً في انتخابات في أفريقيا، وأن فريقاً تابعاً له متواجد حالياً في اليونان فيما آخر مقيم في الإمارات، لافتاً إلى أنّهم شاركوا في 33 حملة على المستوى الرئاسي، وحقّقوا نجاحاً في 27 منها. وعن مشاريع فريقه المستقبلية، قال إنه في وقت لاحق، سيشارك في «مشروعَين رئيسيَن» في الولايات المتحدة، نافياً في الوقت نفسه الانخراط مباشرة في السياسة الأميركية. ومن المرجّح أن يكون غورغي قد أدار عدداً من عملياته التضليلية من خلال الشركة الإسرائيلية «Demoman International»، المسجَّلة على موقع إلكتروني تديره وزارة الدفاع الإسرائيلية لتعزيز صادرات الدفاع.
يتمتّع «فريق غورغي» بخبرة في المجال المالي ووسائل التواصل الاجتماعي والحملات الانتخابية


وبحسب صحيفة «ذي غارديان»، فإن إحدى الخدمات الرئيسة التي يقدّمها «فريق غورغي»، هي حزمة البرامج المتطوّرة المعروفة باسم «حلول وسائط التأثير المتقدّمة» أو «Aims». تسمح هذه الأخيرة بتوظيف الآلاف من الحسابات الشخصية المزيّفة على وسائل التواصل الاجتماعي، على غِرار «تويتر» و»لينكدإن» و»فيسبوك» و»تيليغرام» و»جي ميل» و»إنستغرام» و»يوتيوب». حتى أن بعض الشخصيات الوهمية تمتلك حسابات في «أمازون»، مع بطاقات ائتمان ومحافظ «بيتكوين» وحسابات «Airbnb». يتفاخر غورغي، في حديثه مع الصحافيين، بأن تطبيق «تيليغرام» ليس آمناً كما يظنّ كثيرون، مستعرضاً قدراته على اختراق الحسابات في التطبيق وفي «جي ميل»، وإرسال رسائل منها، وبأن الرسائل التي يرسلها قادرة على خلْق فوضى في الحملة الانتخابية لأيّ منافس مستهدَف، علماً أن إحدى استراتيجياتهم تشمل أيضاً تشويه سمعة هذا الأخير من خلال «ألاعيب» مختلفة وتلفيق فضائح له.
بعد انتحال الصحافيين الثلاثة، وهم من «فرانس راديو» و»هآرتس» و»ذا ماركر»، شخصيات مستشارين يعملون نيابة عن دولة أفريقية تشهد اضطرابات سياسية وتريد مساعدة في تأجيل موعد الانتخابات، أكّد «فريق غورغي» أنه يَقبل الدفع بمجموعة متنوّعة من العملات، بما في ذلك العملات المشفّرة مثل «بيتكوين»، أو الدفع نقداً، مشيراً إلى أن تكلفة التدخّل في الانتخابات تتراوح ما بين 6 و15 مليون دولار. إلا أن بعض رسائل البريد الإلكتروني التي تمّ تسريبها إلى صحيفة «ذي غارديان» تُظهر أنه كان يتقاضى مبالغ أزهد بكثير. ففي عام 2015 مثلاً، طلب الفريق 160 ألف دولار من شركة الاستشارات البريطانية «Cambridge Analytica» التي لم تَعد موجودة الآن، للانخراط في حملة استمرّت ثمانية أسابيع في إحدى دول أميركا اللاتينية.

غورغي «يخرق» الإعلام الفرنسي
يُشار إلى أن ائتلاف الصحافيين الذين حقّقوا في قضية «فريق غورغي» يشمل مراسلين من 30 جهة، بما في ذلك «لو موند» الفرنسية و»دير شبيغيل» الألمانية و «إل باييس» الإسبانية. وتمّ تنسيق المشروع المعروف باسم «Story Killers»، وهو جزء من تحقيق أوسع في قضية صناعة المعلومات المضلّلة، من جهةِ منظّمة «Forbidden Stories»، وهي منظّمة فرنسية غير ربحية تتمثّل مهمتها في متابعة عمل الصحافيين الذين تمّ اغتيالهم أو تهديدهم أو سجنهم. وقد أدّت هذه التحقيقات إلى «فضائح» في بعض أوساط الإعلام الفرنسي، بعدما وقع هذا الأخير ضحية تلاعبات غورغي، عبر «وسيط» فرنسي، وفق ما أفادت به صحيفة «لو موند» الفرنسية.
في 11 كانون الأول، انتشر خبر بين موظفي واحدة من أكثر الإذاعات الفرنسية شهرةً، وهي «قناة بي أف أم»، مفاده بأن إدارة القناة طلبت من أقدم مقدّمي البرامج في الإذاعة، رشيد مباركي، التوقّف عن الظهور على الهواء، في انتظار نتيجة تحقيق داخلي بحقه. تشير الصحيفة الفرنسية إلى أنه يُشتبه في أن مباركي بثّ عدّة مرات خلال العام الماضي مواضيع لم تخضع للتدقيق من قِبل رئيس تحرير القناة، على الأرجح خدمةً لحكومات أجنبية. في المقابل، يدافع مقدّم البرامج عن نفسه بالادّعاء أنه كان «يعمل بلا أجر»، مشيراً إلى أنّه «مرّر» هذه المواضيع خدمةً لأحد معارفه، جان بيير دوثيون، وهو وسيط فرنسي متخصّص في حملات التأثير. بيد أن العديد من المواد التي تمّ بثّها مرتبطة بجهة مختلفة تماماً، لا تعمل في فرنسا، بل في إسرائيل، وبشكل أكثر دقة، في تل أبيب، ومن «وادي السيليكون الإسرائيلي»، حيث يعمل «فريق غورغي»، الذي أنشأه «عدد من قدامى الموساد والجيش الإسرائيلي».
تركّز الصحيفة على عمليتَي بثّ لسلسلتين من مقاطع الفيديو على نطاق واسع عبر حسابات مزيفة على «فيسبوك» و»تويتر». مدّعيةً أنها مقتطفات من صحيفة حصلت عليها «قناة بي أم أف»، تردّد هذه المقاطع، كلمة بكلمة، الحجج ذاتها التي تستند إليها حملتان رئيستان لفريق «غورغي»: الأولى تنتقد مصادرة اليخوت الروسية، والثانية تهاجم المدعي العام القطري السابق، علي بن فطيس المري. بعد تواصُل الصحافيين الذين يحقّقون في القضية مع الإذاعة، فهمت هذه الأخيرة فوراً أن تلك السلاسل التي تمّ بثّها تشكّل «مشكلة كبيرة»، وسرعان ما اكتشفت وجود ممارسات شبيهة، على غرار ملخّصات تهدف إلى التمجيد بالجنرال السوداني محمد حمدان دقلو، أو الحديث عن «الصحراء المغربية».
أوائل هذا الشهر، عندما أعلنت «بوليتيكو» فصْل مباركي، بدأت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية والعديد من وسائل الإعلام الأخرى التدقيق في الدور الذي يؤديه دوثيون. ومذّاك، تستمرّ التقارير في إظهار الصراع المستمرّ منذ شهرين بين الوسطاء المسؤولين عن عمليات التأثير على الساحة الفرنسية بشكل مصغّر. وفي تشرين الثاني 2022، سافر بعضهم، بمن فيهم دوثيون ورجل الأعمال كمال بنعلي، إلى دبي للقاء ممثّلي دقلو. في مقابل نفي الوسطاء الفرنسيين أيّ علاقة مع «غورغي» ومحاولة التخفيف من الاتهامات الموجّهة إليهم، أشاد هذا الأخير بوضوح، في لقائه مع الصحافيين، بقدرته على بثّ مواضيع على القناة الفرنسية، قائلاً: «يمكنني بثّ موضوع على التلفزيون، وسأريكم ذلك»، ثمّ عرض على الشاشة إحدى المواضيع التي أذاعها مباركي، حول يخوت الأوليغارشية الروسية في موناكو.