في غمرة التطلّع نحو لقاء باريس الخماسي، وفي وقت تحرّك الملف الرئاسي في بعض المحافل، التأمت حكومة تصريف الأعمال في جلسة عادية تحت مسمّيات استثنائية، وكأنّ ثمّة تسليماً بتطبيع الوضع الحكومي، من دون أن يكون لأفرقاء الحكومة أيّ حرج في تخطّي كلّ القوى التي ترفض اجتماعها.منذ اللحظة الأولى للشغور الرئاسي، تؤكد القوى المسيحية رفضها اجتماع الحكومة إلا لضرورات استثنائية تَوافقَ على تحديدها النواب في جلسة نيابية. لكن، في مقابل بعض الملامح الخجولة لإظهار شيء من «التعاطف» مع القوى المسيحية في عدم تكريس الأمر الواقع في اجتماعات مجلس الوزراء، ظلّ الشك يحكم هذه القوى من التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب (ما خلا المردة بطبيعة الحال)، ومعها بكركي. وتحوّل الشك يقيناً بعد جلسات متتالية أصبحت روتينية، حتى إن وتيرتها تخطّت وتيرة الحكومة القائمة أصلاً. ومع الجلسة الأخيرة، تأكد لهذه القوى أن أفرقاء الحكومة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، وبتغطية كاملة من الرئيس نبيه بري وحزب الله ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لا يتعاطون مع الرفض المسيحي على أنه معبّر أو أنه قادر على وقف المسار السياسي. وثمّة أسباب مختلفة لهذا الاقتناع:
أولاً، هناك ميل فطري لدى هذه المكوّنات لتخطّي الرفض المسيحي، سواء كان معارضة أو موالاة، رغم أنه بدا في جزئه الأساسي كأنّه موجّه حصراً ضد التيار الوطني الحر، الشريك في الحكومة والذي ساهم في تشكيلها مهما كانت تبريراته آنذاك. هذا الميل عبّر عن نفسه أكثر من مرة في التعاطي مع القوى المسيحية، وهو ليس ابن ساعته. لكنه في كل مرحلة من مراحل الشغور يأخذ أشكالاً مختلفة وأكثر حدّة. وتكمن المفارقة في أن جنبلاط الذي يحرص على ابتداع حلول وطرح أسماء لانتخابات رئاسة الجمهورية ولا يريد استفزاز المسيحيين، ويقول إنه ينصح بعدم عقد جلسة حكومية، هو نفسه الذي يغطّيها في كل مرة. والأمر نفسه ينسحب على حزب الله. فإذا كان مفهوماً استمرار سعي ميقاتي الى الإمساك بصلاحيات رئيس الحكومة في وجه التيار الوطني الحر، لم يعد مبرراً ولا مفهوماً، ولا سيّما من جهة التيار، سبب تغطية حزب الله المتكررة لعقد الجلسات الحكومية.
ثانياً، يؤخذ على بكركي أن لهجتها تجاه جلسات الحكومة تحمل التباسات، وتُتّهم بأنّ تأثيرات سياسية تجعلها تراعي استمرار عمل الحكومة. لكن موقف بكركي المعبّر عنه هو أنها مع استمرار عمل الحكومة لتسيير شؤون الناس الحياتية من خلال اجتماعات وزارية، وليست مع تكريس اجتماعات مجلس الوزراء إلا للحالات القصوى. غير ذلك يُعَدّ اجتهاداً في غير محلّه وتأويلاً لموقف بكركي. وبقدر ما تعطي اجتماعات البطريرك بشارة الراعي في شأن رئاسة الجمهورية لملف الرئاسة زخماً ما، تصبح المطالبة بتأكيد رفض اجتماعات مجلس الوزراء موازية في الأهمية. بغضّ النظر عن مواقف بعض المطارنة المؤيدين للتيار الوطني الحر، ولعدم انعقاد الجلسات في شكل دوري، هناك ضرورة لإظهار متكرّر لموقف مبدئي تعوّل عليه بكركي.
ثالثاً، ترفض قوى المعارضة اجتماعات مجلس الوزراء في صورة دورية. لكن مشكلة هذه القوى هي أنها، عدا عن العلاقة الجيدة التي تربطها برئيس الحكومة، تتصرف مع هذا الرفض وكأنّ ما يحصل يستهدف التيار الوطني الحر وحده، علماً أن موقفها هو العكس تماماً. فهي، غير الممثّلة في الحكومة، تنظر الى الاجتماعات من خلال تغييب دور رئيس الجمهورية. لكنها في إطار الكباش الحالي بينها وبين التيار في ملف رئاسة الجمهورية، وتحت عنوان إعطاء الأولوية لانتخاب رئيس الجمهورية، تغضّ النظر عن اجتماعات مجلس الوزراء. وهذا الأمر يزيد من حماسة الفريق السياسي المؤيّد لانعقاد مجلس الوزراء في عدم قيام جبهة معارضة حقيقية ضد انعقاد مجلس الوزراء.
يؤخذ على بكركي أن لهجتها تجاه جلسات الحكومة تحمل التباسات


رابعاً، لم يعد صراخ التيار الوطني الحر مجدياً، مع استمرار اجتماعات الحكومة، ليبدو أكثر فأكثر أقرب الى قنبلة صوتية. فالبيانات الأسبوعية للتيار والتصريحات حول مجلس الوزراء لا تترك أيّ تأثير سلبي على مشهد الحكومة المجتمعة. ثمّة أمران: واحد يتعلّق بأداء التيار، وآخر يتعلّق بالوزراء الذين وافق عليهم رغم اعتراض قيادات من داخل التيار على توزيرهم. لكنّ الأهم هو الأداء العام الذي بات، كما في حال الخلاف بين التيار وحزب الله، خطاباً مستهلكاً داخل التيار نفسه. كلام نواب في التيار عن المأزق الحالي يعادل كلامهم عن العلاقة المتوترة مع حزب الله، لكن تمرير جلسات مجلس الوزراء يشكّل خطراً أكبر يتعدّى أيّ علاقة بين فريقين. والمشكلة تتحوّل هنا إلى ترجمةٍ لأداء التيار المتعثّر في عدم تشكيل حكومة قبل نهاية العهد، رغم أن الجميع كان مدركاً مخاطر ما قد يجري. وهذا الأمر يعيد بعض من في التيار التذكير به، لأنه هو الذي أوصل الى الحالة الراهنة. لكنّ سوء التدبير الأساسي لا يلغي أنّ التيار أصبح مكبّل اليدين في التصرّف حيال حكومة تصريف أعمال تجتمع دورياً. ولا يظهر الى الآن أنه قادر على منعها مهما بلغت اتّهاماته للمشاركين فيها بتخطّي القوى المسيحية ودور رئيس الجمهورية.