رام الله | العاشرة بتوقيت القسام، لكن الخطاب ليس للملثم صاحب الكوفية الحمراء الذي أعلن أسر جلعاد شاليط عام 2006 وشاؤول آرون في هذه الحرب، أكان حياً أم ميتاً. الخطاب كان للقائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، الذي عرف عن كنيته أمس «أبو خالد». هو الخطاب الثالث خلال عشر سنوات، وجاء بعد يوم واحد من عملية «إنزال خلف خطوط العدو» كانت قد أعلنتها الكتائب وذكرت في بيانها أن رجالها تمكنوا من قتل عشرة جنود خلالها.
الإسرائيلي كعادته تحدث عن الإصابات ثم مقتل خمسة جنود هناك، ولاحقاً أعلن مقتل خمسة آخرين في حوادث متفرّقة، كأنه إعلان بـ«المفرق» عن قتلى كانوا قد سقطوا بـ«الجملة». لتبرير الإخفاق الأمني والعسكري، قال الإسرائيليون إن «الجنود دفعوا حياتهم ثمناً لحماية أرواح مواطنينا»، وكانوا ضمن «دورة تدريبيّة متقدّمة لإعداد القادة»!
وكما حرص أبو عبيدة في بياناته منذ بداية الحرب على ترك المفاجآت، فعلها الضيف الذي أطل صوتاً فقط، وذلك بترك مفاجأة ستغير الكثير في معادلة المواجهة. بعد خطابه مباشرة، بثت قناة الأقصى التابعة لـ«حماس» (قصف مقرها قبل الخطاب بيوم) مقطع فيديو عن عملية الإنزال، مؤكدة فيه أن روايتها هي الأصدق.

ولا ألعاب الأونلاين

يظهر في الفيديو عدة أشخاص عددهم تقريباً ثمانية. يخرجون من فتحة نفق، ثم يركضون باتجاه الموقع المستهدف شرق غزّة. نرى من بعيد البرج العسكري الإسرائيلي، مع ذلك يمشي المجاهدون مشياً طبيعيّاً لا يخشون رؤيتهم من أعلى البرج، هذا بالتأكيد يعود إلى أنّهم يرتدون الزي العسكري الإسرائيلي دون أي تمويه على وجوههم، كما هو واضح في التسجيل، لكنّ حمْل بعضهم سلاح الآر بي جي كان سيكشفهم، لذا نشاهد في ثوانٍ معدودة كيف احتمى أحد حملة هذا السلاح بجانب الجدار برغم أن البقية فضّلوا المشي بطريقة طبيعية، كذلك لم يظهر الفيديو إطلاق قذائف.
نلاحظ في الفيديو التشويش على صوت المقاومين، فلا نسمع من كلامهم شيئاً، الصوت الآدمي الوحيد المسموع كان صراخ الجندي الإسرائيلي، وهذا يعود إلى أحد سببين أو حتى كليهما: الأوّل أنّ بصمة الصوت ستتحوّل إلى أداة من أدوات كشفهم لو تركوها هديّة مجّانيّة للمخابرات الإسرائيلية، والثاني أنّهم يخاطبون بعضهم بعضاً بعبارات (أقرب إلى الشيفرة)، ولا يريدون كشفها على الملأ.
استخدمت المجموعة أكثر من كاميرا في تسجيل هذه العمليّة، ويمكن ملاحظة ذلك بعد التدقيق في طريقة قص الشريط وتعديله. عندما خرجوا من النفق كان المصوّر هو الرجل الثاني، لكنهم عندما وصلوا إلى باب النقطة العسكرية كان المصوّر هو الرجل الأول. يظهر ذلك من عرضهم الصورة البطيئة لجندي الحراسة الذي تجمّد مكانه لبرهة قبل أن يهرب فيبادره الرجال بالرصاص، كذلك ظهر أن حركة الكاميرا ليست حرة، ما يرجح أنها مربوطة بخوذة أو جزء آخر. الأكيد أنّ إحدى الكاميرات كانت مع واحد من المقاومين الذين «تعاملوا» مع الجندي الذي كان يصرخ، وأنّها صوّرت الحدث عن قرب بكل تأكيد. وتظهر الكاميرا على رأس الرجال الذي يتقدّم إلى البوابة عائداً بسلاح الجندي فيعطيه لزميله، وهو المُصوّر الذي نشاهد معه الأحداث، ثم ينسحب الرجل من المكان ونلاحظ وقوف ثلاثة أفراد في الخارج، ما يعني أن الخليّة كانت مُقسّمة إلى قسمين، أربعة يدخلون أوّلاً والأربعة الباقون ينتظرون خارجاً.

أكد خطاب الضيف
والفيديو أن المقاومة تستهدف الجنود وتتجنب المدنيين

ينقطع عنّا خط سير الأحداث مع انسحاب المُصوّر من المكان، تحديداً مع الثانية 2:28 حينما نسمع أصوات اشتباكات في خلفيّة المشهد لكننا لا نراها فعليّاً. هنا مشاهد ناقصة تكملها الكاميرا الثانية بكل تأكيد، لكن على ما يبدو أنّهم في «القسّام» فضّلوا ألا يبثوها الآن، على الأقل.
يخطر في بالنا تساؤل عن مصير الجندي الذي صرخ تحديداً. هل مات؟ حسناً، في الحقيقة لا نعلم مصيره على وجه الخصوص، من الممكن أن يكون قد مات أو أيّ شيء آخر، هنا لسنا في معرض التكهّن، لكن مصيره غير محدد على وجه الدقّة، وما ظهر أنه كان يضرب وسحب سلاحه الذي عرض في آخر المقطع، لكن لم يظهر أنه قتل ويمكن أن تكون هذه رسالة إلى الإسرائيليين، وبذلك يمكن فتح باب الاحتمالات وانتظار ما يمكن أن تكشفه الأيام لنا. ما نعلمه الآن قطعاً أن استخدام الكاميرات في العمليّة أمر شُجاع وجريء ويدل على قدرة وثقة عالية في جنود المقاومة الفلسطينيّة، ومن يدري أي عملية أخرى قد صورت وستعرض في مفاجآت أخرى؟

الجنون عكس الهدوء

برغم الاستثمار الكبير للحرب «الذكيّة» كما يسميها جيش الاحتلال، فإن هذا التوجّه لم يسعفه في إحباط هذه العمليّة وغيرها. في كل 12 ساعة ترسم الاستخبارات العسكرية خطة تشغيليّة جديدة تسمح بالتكيّف مع تطوّرات الوقت الحالي على أرض المعركة. عندما يتعلّق الأمر بالأنفاق، فهم يرسلون قوات بريّة إلى موقع النفق المحتمل، يرسمون خط سير كامل له، أو يحاولون ذلك. لكنهم في النهاية يقعون في متاهة معقّدة من الممرات المترابطة تحت الأرض التي تمتد حتى داخل الأراضي المحتلة في غالبيتها. ومع إدراك المقاومة أنها تحت المراقبة طوال الوقت، لكن ذلك لم يمنعها من هزّ الاستخبارات العسكرية بأكثر من عمليّة نوعيّة هنا وهناك. فبات من المستحيل لهذا الجيش أن يصل إلى كل فتحة نفق في غزّة اليوم.
أما «الضيف»، فظهر في وقت حسّاس جدّاً للمعركة. ألقى خطاباً هادئاً كان من أقوى الرسائل موجّهة إلى الاستخبارات العسكرية للاحتلال. خرج ليقول: أنا هنا، أُدير المعركة، أعرف مُجرياتها، والآن أوجهها سياسيّاً أيضاً، ثم أكمل خطابه بإرسال الرسالة الثانية التي لا تقل أهمية أو خطورة، وهي رسالة التحدي لكل تاريخ جيش إسرائيل، عندما قال إنّهم، في كتائب القسّام، يعملون وفق معلومات استخباريّة دقيقة لا ضمن «ردود فعل بلهاء كما يفعل العدو، فها نحن نقتل منه الجنود، في حين أنه يستهدف المدنيين». أيضاً قال: «نحن هنا لنقول لكم، ما أخفقت في تحقيقه الضربات الجويّة لن تنجح في إنهائه العمليّة البريّة».
هذه التصريحات دفعت الإسرائيليين إلى الجنون، القنوات العبرية التي كانت تبث الخطاب مباشرة نقلاً عن فضائيّة الأقصى أتت كل أخبارها العاجلة على لسان الضيف، ونقلت مطالب المقاومة التي أكّدها «أبو خالد» في كلمته، كذلك أبرزت حجم التحدي الذي يقوده ضدهم. كل هذا التحدي دفع وزير المالية، يائير لابيد، إلى التصريح بالقول: «الضيف رجل ميّت، سنجده وسنقتله». لم يكتف الضيف بهذه الرسائل، فانتقل برسالة قويّة إلى القادة السياسيين عامة مفادها أنه لا يمكن تجاوز المقاومة وشروطها. «هذه المرة سينتهي الحصار بالتأكيد ولن نقبل بوقف إطلاق نار أو تهدئة قبل تحقيق مطالبنا». وما إن انتهى الخطاب الذي شد متابعيه، بدأت القناة عرض شريط الفيديو لعمليّة «ناحل عوز»، وهذا ما لم يتوقّعه أحد، ما اضطر القنوات الإسرائيلية إلى قطع النقل مباشرة.