غزة | يصرّ الطفل مصعب أبو ضلفة على جدته لتصحبه إلى والده. لم يعلم مصعب بعد أن النسوة اللواتي يتحلقن حول جدته في صحن الدار، جئن ليقدمن لها واجب العزاء في استشهاد أبيه. يشد الطفل يدي الجدة لإخراجها من جلستها، «هيا انهضي نريد الذهاب إلى بابا»، فتردّ الأخيرة وهي تنتحب «غداً سنذهب إليه معاً وسنأخذ معنا الورد». هذه الكلمات تكفي كي يصمت الصغير ويسند رأسه إلى صدر الجدة.
قررت والدة الشهيد أن تصطحب اليتيم ذا الخمسة أعوام إلى قبر والده، تزامناً مع تكبيرات عيد الفطر في ساعات الصباح الأولى، ليضع قبلة على قبر والده. سؤالان داوم مصعب على توجيههما إلى جدته، أين بابا ولماذا لم تشتروا لي ملابس العيد؟ المرأة الخمسينية لم تقوَ على الرد، تحني رأسها بين حين وآخر وتخبّئ دموعها بكفها.
وحرم مئات الأطفال في غزة تقبيل وجنات آبائهم وأمهاتهم في يوم العيد. بعدما فرّقتهم إلى الأبد القذائف والصواريخ. لقد استشهد في العدوان المتواصل على القطاع نحو 1040 شخصاً.
لن يمر العيد كما كان على غزة التي تبدلت ملامحها. هذا العام، تسكن الكآبة عيون صغارها الذين يشتاقون إلى أرجوحة العيد وبالونات الزينة. تلك العادات كلها ستغيب عن المشهد تماماً هذه السنة. أما الأسواق، التي نالت نصيبها من الضرب الاسرائيلي، فلن تستقبل الغزيين القابعين بمعظمهم في مراكز الإيواء. وهؤلاء، الذين يزيد عددهم على مئة ألف مواطن، اعتادوا في هذا الوقت من كل عام التوجه إلى الأسواق لشراء الملابس لأبنائهم، فيما تعدّ النساء الكعك المنزلي وسط أهازيج العيد.


لن يستطيع ذوو
الشهداء فتح بيوت عزاء
بسبب القصف
يقول محمد النخالة، وهو صاحب متجر في سوق الرمال وسط غزة: «رغم حسرتي على البضاعة التي تكدست في المتجر وعجزي عن بيعها بسبب الحرب، تبقى حسرتي على الشهداء والدمار أكبر من ذلك بكثير».
من جهته، أكد المواطن أبو محمد محسن، الذي رأى في ساحة مستشفى «الشفاء» مأوى مناسباً له ولأبنائه الثمانية، أنه سيبقى في مكانه أثناء العيد، وأنه لن يبرح المستشفى إلا حين يتوافر مسكن جديد.
أما محسن الذي فقد منزله في العدوان المتواصل فيقول إنه لن يذهب مجدداً إلى الشجاعية، وأضاف: «يكفيني ألماً وحسرة، سأبقى على جلستي هنا»، متسائلاً: «أي عيد هذا الذي سيأتينا وقد حل بنا كل هذا الخراب والدمار وسفك دماء الأبرياء الأمنين؟».
لن يتمكن الجيران من معايدة بعضهم بعضاً هذا العام. حلوى العيد ستحلّ مكانها القهوة المرّة. فقدان كل هؤلاء الشهداء سيجعل الغزيين يستبدلون المعايدة بالتعزية والمواساة، مع العلم بأن ذوي الشهداء لن يستطيعوا فتح بيوت عزاء بسبب شدة القصف وخوفاً من الاستهداف. أما الذين فقدوا مساكنهم، فقد وقفوا يشاهدون أنقاضها مسترجعين ذكريات العيد الماضي.
هنا على سطح مهدم في حي الشجاعية شرق غزة، وقفت نجلاء عليوة تحدق إلى مشهد الدمار الذي حلّ بمسكنها، فيما شاركت إحدى الجارات في تهدئتها وثنيها عن البكاء. وهي تهمّ بالعودة إلى مأوى النازحين في قلب المدينة، التفتت عليوة إلى الوراء قائلةً: «كل عام وأنت بخير يا دار، إحنا راجعين إن شاء الله». بهذا القول تقطع السيدة التي تربي خمسة أطفال عهداً بأن تعود لتبني بيتها مجدداً.
يأتي العيد أيضاً محمّلاً بكثيرٍ من الآلام. دمع الثكالى لا يزال يفيض، والأرامل يزددن وجعاً كلما سأل الأبناء عن آبائهم الذين خرجوا ولم يعودوا، لأن عقول الصغار لا تقوى على إدراك معنى أن يصبح أحد «يتيماً».
تتساءل أم ياسر، وهي زوجة شهيد سقط في ميدان المواجهة مع الاحتلال في قرية خزاعة شرق خانيونس: «كيف أقنع هؤلاء الأطفال بأن أباهم لن يعود مجدداً، وأن عليهم أن ينسوا طقوس العيد هذا العام؟». أبناء أم ياسر الذين لم يبلغ أكبرهم سبعة أعوام، ما برحوا يسألونها عن دواعي غياب حلوى الحلقوم والسكاكر، فاجأها أصغرهم ذو الأربعة أعوام بقوله «ماما بدي أروح عند بابا علشان العيد قرّب». تخبّئ الأرملة وجهها بين يديها وتبكي قائلة «إسرائيل لم تبقِ لنا عيداً.. أي فرحة تلك التي سنعيشها بعدما فقدت زوجي وحبيبي ووالد أبنائي».