بعدما أثبتت عملية «كاسر الأمواج» فشلها في تقويض البنى التحتية لمجموعات المقاومة الناشئة في الضفة الغربية المحتلّة، وفي أعقاب اقتناع المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية بأن الاغتيالات لا تفعل أكثر من بناء مزيد من الرموز والأيقونات التي تفتح طريقاً جديداً للمئات، لم تَجِد سلطات الاحتلال بدّاً من اللجوء إلى استراتيجية القضم، التي تلعب فيها السلطة الفلسطينية دوراً رئيساً. استراتيجيةٌ تقوم على تكثيف الاعتقالات بحقّ المقاوِمين أو حتى مَن يُشتبه في استعدادهم للمقاومة، وتصعيد العقاب الجماعي ضدّ حاضناتهم، وتحويل هذه السياسات إلى أدوات ابتزاز وضغط عليهم لدفعهم إلى تسليم أنفسهم. وعلى رغم أن هذا التكتيك أظْهر فاعلية محدودة في الحدّ من حضور العمل المقاوِم النوعي، إلّا أنه لم يفلح في الحدّ من تمدُّد المقاومة الأفقي، والذي تشتدّ الحاجة اليوم إلى تحصينه ورعايته، بما يفيد في إبقاء عملية الإشغال قائمة ضدّ العدو، وفي الوقت نفسه تقليص الخسائر النوعية، وخصوصاً البشرية منها، في صفوف المقاوِمين
وضَع تمدُّد خلايا المقاومة في الضفة الغربية المحتلّة، كلّاً من المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، أمام خيارات حرجة. خلال الأشهر الأولى من انطلاق «كتيبة جنين» في أيلول الماضي، لم تُشِر المعطيات إلى إمكانية تطوُّر «المجموعة الفتيّة»، العديمة التجربة العسكرية والتنظيمية، إلى خلايا هَرمية منظَّمة، تتمكّن من التمدّد الأفقي، بل وتضع في خُططها وحساباتها بناء خلايا ظلّ. عقب ذلك، أظْهر المنحنى التصاعدي للفعل المقاوم - 12188 عملاً مقاوِماً في عام 2022 تسبّبت بمقتل 31 جندياً وإصابة 525 آخرين - خطأ التقدير الإسرائيلي في التهوين من الحالة القائمة والتراخي في التعاطي معها. «ثورة التيك توك» كان التعبير الأكثر استهتاراً في توصيف حالة «كتيبة جنين»، قبل أن يَغرق المحلّلون الإسرائيليون في محاولة اجتراح تسمية للوضع القائم، ما بين «انتفاضة جديدة» أو «شبه انتفاضة» أو «انتفاضة من نوع مختلف».
بعيداً عن جدل التوصيف والمصطلحات، وجدت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية نفسها مضطرّة للبدء بـ«عملية خاصة»، أقرّت من خلالها بأن ثمّة «أمواجاً» بحاجة إلى «الكسر». في نهاية آذار، انطلقت عملية «كاسر الأمواج» التي لم تنجح حتى نهاية 2022 في تقويض البنى التحتية لمجموعات المقاومة. كان واضحاً أن جيش الاحتلال عمد، في خلال العملية المذكورة، إلى تكثيف الاعتقالات الوقائية؛ ففي الشهر الأوّل منها، أي في نيسان الماضي، اعتَقل أكثر من 1228 شابّاً، ليَبلغ عدد المعتقَلين العام الفائت نحو 7000 فلسطيني. يشير تتبُّع تلك الحالات إلى أن الجيش الإسرائيلي استند في الاعتقالات إلى ما هو أبعد وأكثر حيطة من التاريخ النضالي لكلّ حالة، إذ إن المئات من الشبّان اعتُقلوا بسبب منشور عبر صفحاتهم في «فيسبوك» من دون أيّ تهمة، فيما آخرون تلقّوا استدعاءات من قِبَل «الشاباك»، حيث خلُص التقييم النفسي الذي قدّمته لجنة التحقيق بخصوصهم إلى أن «جيناتهم» تُضمر إمكانية أن يتحوّلوا في يومٍ ما إلى مقاومين. وبالإجمال، بلغ عدد مَن صدرت بحقّهم أحكام اعتقال إدارية، نحو 2409.
تعتقد المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية أن من شأن تكتيك القضم، أن يحقّق لها هدفاً آنياً وآخر استراتيجياً


كان واضحاً، أيضاً، أن جيش الاحتلال اقتصد، إلى أقصى ما يستطيع، في استخدام القوّة، بالنظر إلى أن كلّ عملية اغتيال كانت تضعه أمام هاجس بناء المزيد من الرموز والأيقونات، الذين يفتحون طريقاً جديداً للمئات مِن بَعدهم. لذا، استبعد الإسرائيليون من خياراتهم التوجّه إلى عملية عسكرية واسعة، على غرار «السور الواقي» عام 2002، لأن حدّة التهديد الظرفي لا تستدعي اجتياحاً كاملاً لمدنٍ ومخيّماتٍ بحجم جنين ونابلس. في المقابل، تصاعَد الضغط على المؤسّسة الأمنية في السلطة، والتي كانت تعرّضت خلال الـ15 عاماً الماضية لعملية إعادة هيكلة وتدجين، أشرف عليها ضبّاط غربيون وأميركيون، أفضى جهدهم - وفق تقديرهم - إلى بناء أجهزة أمنية مهنية، تعمل بنظام شركات الأمن الخاصة، وتنفّذ الأوامر من دون أيّ اعتبارات وطنية أو عاطفية. وعلى رغم أن ذلك التقدير اخترق «طوباويّتَه» العشراتُ من الشهداء الذين نفّذوا هجمات جريئة، بل وقادوا حالات كاملة وهُم على رأس عملهم في الأجهزة الأمنية، إلّا أن تلك الحالات الفردية لا تعبّر بالتأكيد عن القناعة الرسمية للسلطة.

القضم المشترك
بعد يوم واحد من بثّ برنامج «ما خفي أعظم» على قناة «الجزيرة» القطرية مطلع كانون الثاني الجاري، والذي ظَهر فيه القيادي الروحي الأبرز في «عرين الأسود» المُكنّى بـ«أبو فلسطين»، سرّبت مصادر في السلطة إلى إحدى الصحف المحلّية خبر تسليم الشخص ذاته نفسه، وتوقيعه على تسوية أفضت إلى وقْف ملاحقته، على غِرار ما فعله خمسة من قادة «العرين»، بعد يومَين من اغتيال قائد المجموعة الأكثر شعبية وحضوراً، وديع الحَوح. نقطة الالتقاء بين الحدثَين، أن «أبو فلسطين» ومحمود بنا ومحمد طبنجة كانوا قد ظهروا قبل الإعلان عن اعتزالهم العمل المقاوم، في لقاءات مصوَّرة، تحدّثوا فيها عن قدْر الإغراءات التي قدّمها مُحافظو السلطة وقادتُها الأمنيون لهم مقابل أن يَتركوا المقاومة، وأبانوا موقفاً جذرياً يحمل فيضاً من الحماسة في رفْض تلك الإغراءات. كما أنه في كلا التوقيتَين، كان الشارع النابلسي والضفّاوي عموماً يعيش حالة معنوية عالية، انعكست بكلّ تأكيد في شكل استعداد المئات من الشبّان للتجنيد في المقاومة. في الوقت نفسه، لم تتوقّف عمليات الاحتلال الجراحية لاغتيال مَن تَصل الرصاصات إليه في جنين. تجلّي الوقائع المتقدّمة السياسة الإسرائيلية في التعاطي مع حالتَي المقاومة البارزتَين: «كتيبة جنين» و«عرين الأسود»، والتي يمكن تسجيل الملاحظات الآتية إزاءها:
- بدأت السلطة بتقديم إغراءات كبيرة لقادة «العرين»، وأكثرهم من «الفتحاويين» وأبناء قادة الأجهزة الأمنية، بعد اعتقال المطارَد مصعب اشتية، بغرض تجريد الحالة من غطائها «الفتحاوي»، وحصْرها ببعض «المشاغبين» المحسوبين على حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
- عمدت «إسرائيل» إلى اغتيال كلّ شخصية محورية ومؤثّرة رفضت التوقيع على تسوية، بعد أن استنفد الوكلاء الأمنيون جهودهم في محاولة إقناعها، وهو ما يتجلّى مثلاً في حالة الشهيد وديع الحَوح الذي قضى في نهاية تشرين الأوّل الماضي.
- تشير دراسة أكثر حالات الشخصيات التي قَبِلت بالتسوية، إلى أنها عمدت إلى ذلك الخيار المُكلف معنوياً، بعدما فُرضت عليها ظروف اجتماعية تتعلّق بعائلاتها. مثلاً، قُتل شقيق محمود البنا في أحد سجون الاستخبارات العسكرية التابعة للسطة، ولم يبقَ من مُعينٍ لعائلته سِواه. وفي حالة «أبو فلسطين»، اعتقلت قوّات الاحتلال، قبل أيام من تسليمه نفسه، شقيقه الأصغر، كما داهمت منزل العائلة عدّة مرّات، وتَركت الأُسرة المكوَّنة من اثنَين من الإخوة الذكور واثنتَين من الإناث، من دون راعٍ.
يُظهر ما تَقدّم أن السلطة وإسرائيل تَدرسان الواقع الاجتماعي والنفسي للشخصيات القيادية، وتهيّئان كلّ الظروف الضاغطة التي تدفع بمقاوم ممتلئ بالحماسة، إلى أن يقدّم اعتبار ومصلحة دائرته الضيّقة على طريقه الوطني والثوري. ويبدو لافتاً أن السلوك الإسرائيلي في بيئة عمل كجنين، مُغايرٌ لِما هو عليه الحال في نابلس؛ ففي الأخيرة، اقتصد الجيش، عقب اغتيال الحَوح، بقدْر ما سمحت به ظروف الميدان، في إطلاق النار، وأعطى الأولوية في عمليات الاقتحام لاعتقال المطلوبين لا اغتيالهم. لكن في مقابل كلّ شهيد من نابلس، قتلتْ إسرائيل اثنَين في جنين؛ إذ إنه في المخيّم الذي يُسمّى شعبياً «عش الدبابير»، لا «لطاش» - وفق التعبير الضفّاوي -، أي لا طريقة لاختراق المقاومين. كما أن خطّ حركة «فتح» في المخيّم والمدينة، بأعمّه الأغلب، ليس على توافق مع رئيس السلطة، محمود عباس. ولذا، فإن سقوط إمكانية التسويات، أطلق العنان للرصاص.

ما بعد القضم
تعتقد المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية أن من شأن تكتيك القضم، أن يحقّق لها هدفاً آنياً يتمثّل في التخلّص من التهديد الظرفي، أي القضاء على مفاصل التهديد بالقتل أو التسويات؛ وهدفاً استراتيجياً عبر تجفيف مصادر التمويل والإمداد. ومن الجيّد الإقرار بأن هذا التكتيك، الذي يترافق مع أسلوب الإنهاك والضغط المستمرّ على حواضن المقاومة من خلال الاقتحامات المستمرّة لتلك البيئات، ساهم، وإنْ بشكل محدود، في الحدّ من حضور العمل المقاوم النوعي، لكنه، بكلّ تأكيد، لم يستطع الحدّ من تمدُّد المقاومة الأفقي، وتوسيع أثرها المعنوي والاجتماعي، وتكثيف عمليات الإشغال. غير أن بيت القصيد في هذا كلّه، هو ضرورة المحافظة على واقع تعقيد الحسابات الإسرائيلية، التي تمنع الجيش من التوجّه إلى عملية شاملة، من خلال المحافظة على «رتم» مضبوط من الخسائر في صفوف الإسرائيليين، مع تقليص الخسائر البشرية عموماً والنوعية خصوصاً - القادة الميدانيون ومصنّعو العبوات - قدْر المستطاع. كما أنه من المهمّ استنساخ نموذج جنين الاجتماعي في النقاط الساخنة كافة؛ إذ ليس من المقبول ترْك عائلات المطلوبين والشهداء وحيدة في مواجهة «الطوفان»، وهو ما يُبرز الحاجة إلى شكل أكثر تنظيماً ومأسسة من هذه «الرعاية» في نابلس.