التهديدات الكلاسيكية الماثلة منذ زمن إزاء إسرائيل، والتي لم ينجح الرئيس الخارج من الطبقة الـ14 في «الكرياة» في تل أبيب، أفيف كوخافي، في معالجتها، لم تكن هي شغل الأخير الشاغل فحسب في الشهرَين الماضيَين؛ إذ قال في أكثر من مقابلة صحافية إنه نسّق مع خلَفه، هرتسي هليفي، بشأن كلّ ما يتعلق باتفاقيات الائتلاف الحكومي المتّصلة بالجيش، وما قد تُلحقه من ضرر بمكانة الأخير وصلاحياته، خصوصاً في الضفة الغربية، مع انتزاع صلاحيات منه ومنْحها للوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموترتش. مع ذلك، فإن الرئيس الجديد للهيئة «لا يُتوقّع أن يُحدث انقلاباً» في الخطط التي وضعها سلفه ولم تؤتِ أُكُلها؛ إذ طبقاً للباحث الإسرائيلي في العلاقات العسكرية الاجتماعية، يغئيل ليفي، فإن هليفي، «بخلاف غيره من الجنرالات ممّن يعملون بجهد لاستخدام القوة، ربّما سيقلّل من الخطابات حول الفتك». ويعزو ليفي ذلك إلى أن هليفي هو «رئيس الأركان الأوّل الذي أثيرت مشكلة الشرعية حول تعيينه خلال حكومة انتقالية، ما سيدفعه إلى الانشغال عملياً بكسب ثقة اليمين قبل الانشغال بأمور أخرى». وعلى الرغم من أنه «يعرف حدود استخدام القوة، وأنه كرئيس سابق للاستخبارات العسكرية وكقائد للمنطقة الجنوبية أيّد التهدئة مع (حماس)، لم تَصدر عنه أيّ دعوات إلى عملية سياسية». وفي السياق، يستدلّ الباحث بتجربة هليفي عندما كان قائداً لـ«فرقة الجليل»، حيث اعتبر أنه «لا يعتقد أن هناك حرباً أو عملية ستحلّ المشكلة في لبنان»، وإنّما «(الحلّ يكمن) في كيفية خلْق فجوة أكبر بين الحروب».بحسب المحلّل العسكري، يوآف ليمور، فإن هليفي، طبقاً لقادة اشتغلوا معه في منظومة الجيش، «خاض المسار العسكري بحِرفيّة عاليّة، ويُعدّ قائداً لا تشوبه شائبة. وهو مقاتل شرس، خلّاق، وذو مخيّلة واسعة». وعلى الرغم من ذلك، إلّا أنه يجد نفسه اليوم يواجه جملة من التحديّات، في مقدّمتها «انخفاض منسوب ثقة الجمهور بمؤسّسة الجيش، والصعوبة في الحفاظ على القوى البشرية النوعية والتدريب بشكل ثابت، فضلاً عن كيفية التعامل مع قِيَم الجيش وطابعه». أيضاً، يواجه أزمة شبه شخصية تتلخّص في أن عائلة بنيامين نتنياهو لم تختره، لا بل إن الأخير قاتل حتى الرمق الأخير ليعرقل تعيينه. وفي الإطار، نقل ليمور عن صديق رئيس الأركان «المقرّب» قوله «إنه (هليفي) عنيد، ونتوقّع له مواجهات مع الحكومة»، فيما وصفه صديق آخر بالقول إنه «لا يَسعدُ بالقتال، ولكنه لا يهابه». وطبقاً لليمور، فإن مسيرة هليفي منذ أيامه في كتيبة «المظلّيين»، مروراً بـ«سيرت متكال» (وحدة قيادة الأركان النخبويّة)، وصولاً إلى «أمان» (شعبة الاستخبارات العسكرية)، ومن ثمّ خدمته في المناطق الثلاث، «أهّلته لاستلام الوظيفة الجديدة وسط تحدّيات وتهديدات جِسام تَمْثُلُ أمام الجيش ودولة إسرائيل». ويشير في تقرير مطوّل إلى أنه على الرغم من محاولات تخريب تعيينه والانتقادات التي طاولته، فإنه «يحظى بالإجماع على كونه رجلاً نظيفاً، وقائداً لا تشوبه شائبة، ويمتلك كلّ المهارات اللازمة للنجاح».
خلال الشهرَين الأخيرَين قبل تعيينه، وبالرغم من كونه يعرف الجيش والجبهات جيّداً، «طلب هليفي العلم، والاستماع، ومقابلة شخصيات تفكّر بطرق مغايرة له». تلك اللقاءات «عكست شعوره بالحيرة تجاه عددٍ من القضايا التشغيلية والبنيوية والعملياتية وحتى الشخصيات». يقول أحد عارفيه إنه «من الأفضل ألّا نتوقّع منه إحداث انقلاب في أيامه الأولى»، مشيراً إلى أنه «بخلاف آخرين (في إشارة إلى كوخافي)، إنه ليس رجل أقوال، وإنّما أفعال. لن يَدخل إلى المكتب ليقول إنني أخطّط لفعل هذا وذاك، وإنّما سيدخل، وبكلّ بساطة سيفعل. سيستغرق الأمر بضعة أشهر، غير أن التغييرات ستكون ملموسة». على هليفي، بحسب أحد مَن سبقوه في المنصب، «التحلّي بكثير من الصفات: الاعتداد بالنفس، الوحشية، الإدراك والفهم المباشران، القدرات الديبلوماسية والسياسية، الخداع والقدرة على التفاوض، الليونة والصلابة حتى يتمكّن من إدارة منظومة مُركّبة ومعقّدة مثل الجيش بنجاعة، في خضمّ الفوضى السياسية الإسرائيلية القائمة». غالبية هذه الصفات «قائمة لديه، والأخرى عليه تنميتها أو اكتسابها».
يقول أحد عارفيه إنه «من الأفضل ألّا نتوقّع منه إحداث انقلاب في أيامه الأولى»


قبل شهر بالضبط، أتمّ هليفي عامه الـ55، وهو يعدّ رئيس الأركان الأوّل المولود بعد النكسة أو حرب الأيام الستّة. سُمّي على اسم عمّه هرتسل الذي قُتل خلال تلك الحرب. نشأ في بيت يهودي تقليدي متديّن، وتربطه صلة قرابة من جهة جدّته مع الراف أبراهم يتسحاق كوك وفقاً لموقع «سروغيم». أبوه شلومو، كان صاحب مكتب للاستشارات والمبادرات في القدس، وهو رجل يميني، عمل في بلدية القدس مدّة 10 سنوات في فترة تدي (ثيودور) كولمن، وتوفّي نتيجة مرض عضال قبل 22 عاماً، عندما كان عمره 59 عاماً فقط، وتخليداً لذكراه أُطلق اسمه على أحد الشوارع في مدينة القدس في حيّ «هار هتسوفيم». أمّا أمّه فهي تسيلا، من الجيل الخامس عشر في القدس، وتعود جذورها إلى اتّحاد عائلتَي برناس ومزراحي. كانت معلّمة تربية بدنية في المدرسة الثانوية الواقعة بالقرب من الجامعة العبرية، تسكن في تل أبيب، بالقرب من ولدها البكر أمير، الذي ظلّ حتى السنة الماضية مدير عام وزارة السياحة (وقد اختاره لذلك المنصب وزير القضاء الحالي، ياريف ليفين).
قضى هليفي سنواته الأولى في الجادة الألمانية. ولمّا أصبح عمره 4 سنوات، انتقلت العائلة للعيش في شارع «هضبة الجولان» في حيّ «رمات أشكول» في القدس، والذي بُني بعد النكسة. درس في المدرسة الحكومية الدينية «بردس»، وأكمل دراسته في ثانوية «ميلفَرب» الدينية أيضاً. أمّا مركز حياته وحياة أخيه أمير، الذي يكبره بعامين، فكان في «سبط مشأوت» التابع للكشافة الدينية، والذي كان والداهما قد انتميا إليه سابقاً. هليفي متزوّج من شارون التي تصدّرت الواجهة بعدما قالت لأحد المراسلين الإسرائيليين أوّل من أمس: «أنا لا أعمل عندك»، رافضةً إجراء مقابلة. أصدقاء العائلة يصفون العلاقة بينهما بـ«الدافئة والحميمة»، وبأنهما «مضيافان»، فيما تنشغل الصحافة العبرية لصورتهما بينما «ضُبطا» يتبادلان النظرات من فوق الجدار الذي يفصل بين الإناث والذكور عند «حائط المبكى». لديهما أربعة أولاد؛ كليل وهو سبّاح ماهر في السباحات الطويلة وفي المياه المفتوحة؛ ليا، التي أنهت خدمتها التحضيرية للجيش في مدرسة «عين فرات»، وتخدم اليوم في «أمان»؛ وإيتي ويوآف اللذان لا يزالان في المدرسة.
يصفه مقرّبوه بأنه والد «مهتمّ جدّاً بأبنائه»، ولأجل ذلك «وجد نفسه أكثر من مرّة مُضطرّاً للبقاء في نادي فينجيد لحضور منافسة سباحة يشترك فيها ابنه في أيام السبت، ولم يغادر خشية تدنيس السبت». صحيح أنه لا يعتمر «الكيباة» (القلنسوة)، ولكنه يمثّل سابقة في كونه أوّل رئيس أركان متديّن. هو نفسه يقول بأنه يضع «كيباة شفافة. يصوم الكيبور، ويحافظ على قداسة السبت». هيلفي، كما ولده، منشغل أيضاً بالرياضة، فهو يمارس هوايتَي السباحة وركوب الدرّاجات، ويفضّل رياضة الركض؛ إذ وفقاً لصحيفة «إسرائيل اليوم»، يرسل سائقه إلى نقطة ما في نهاية طريق، ثمّ يركض بموازاته. بالنسبة إليه «يبدأ كلّ صباح بالرياضة، حتى لو كان خارج إسرائيل». فعندما زار قطر قبل سنوات، لمّا كان قائد منطقة الجنوب (الزيارة التي انضمّ فيها إلى رئيس الموساد في حينه يوسي كوهين)، شوهد وفقاً للصحيفة وهو «يمارس الركض على شاطئ الدوحة، فيما كان حرّاسه يبذلون جهدهم لكي يبقوا ملاصقين له».
يسكن اليوم في «كفار أورانيم» في منطقة «موديعين»، وإلى جانبه يسكن العديد من رجالات الأمن الآخرين الذين يدورون في «دائرة أصدقاء رئيس هيئة الأركان». وبالرغم من أن لهيلفي دائرة اجتماعية واسعة - معظمها من رفاقه من أيام خدمته في «السيرت متكال» -، غير أن «قلّة قليلة فقط تحظى بثقته». أحد هؤلاء هو غابي فورطنوي، رفيقه المقرّب، والذي شغل سابقاً رئيس الوحدة التشغيلية في «أمان»، واليوم هو رئيس «هيئة السايبر القومية». يتحدّث فورطنوي عن أنه كان محتاراً عندما عُرض عليه منصب رئيس الوحدة التشغيلية في «أمان»، وهي القيادة التي أنشئت في إطار عدوان تموز 2006 بهدف تحسين قدرات جمْع المعلومات والتنسيق بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية (أمان، شاباك، موساد)، وبالأخص العمل داخل «أمان». وكان أوّل من شغل هذا المنصب هو نيتسان ألون، ومن ثمّ هرتسي هليفي. وعندما اقترح قائد هيئة الأركان سابقاً، غادي آيزينكوت، المنصب على فورطوني، عمد الأخير إلى التشاور مع هليفي، الذي كان في حينه رئيساً لـ«أمان». وهو يقول في هذا الإطار: «هليفي جلس معي لساعات طويلة وهو يشرح سيّئات وحسنات الوظيفة الجديدة»، مضيفاً أنه «دائماً ما يقول الحقيقة، حتى عندما لا تخدم مصالحه»، فيما يقول صديق ثانٍ عنه إنه «يجزّئ الصورة إلى تفاصيل صغيرة، ومن ثمّ يقوم بتوصيلها مجدّداً لرؤية الصورة الكلّية». أمّا آيزينكوت الذي كان هليفي رئيساً لـ«أمان» في فترته، وكذلك قائد منطقة الجنوب، فوصفه بأنه «واحد من أهم مُقدّمي الإحاطات الذين التقيت بهم»، مضيفاً أن «الأميركيين أُعجبوا به كثيراً، وذلك بسبب واقعيّته، وشدّة تركيزه، وكونه ليس عنده هراء».
في عام 1985، انضمّ هليفي إلى وحدة «الناحال» في الجيش الإسرائيلي، قبل أن يتطوّع في «كتيبة المظلّيين» ضمن لواء «الناحال». وخلال ذلك، حصل على دورة ضباط صفّ المشاة والمشاة المتقدّمة، والتي مكّنته من أن يصبح قائد فصيل في اللواء. لم ينسَ دراسته في خلال خدمته العسكرية، إذ درس الفلسفة وإدارة الأعمال في الجامعة العبرية، قبل أن يدرس لاحقاً في جامعة الأمن القومي في الولايات المتحدة. في عام 1992، عُيّن قائداً لـ«كتيبة المظلّيين» في لواء «عوريف»، وبعد ذلك قائداً في «سييرت متكال»، وتدرّج في المناصب في الوحدة نفسها إلى أن بات نائباً لقائدها. كان هليفي من بين الذين شاركوا في عملية «اللدغة السّامة» التي اختُطف فيها القيادي في «حزب الله»، مصطفى الديراني، لكنه فشل لاحقاً في عملية إنقاذ الأسير نحشون فاكسمان عام 1994، والتي انتهت بمقتل الجندي وقائد الوحدة العسكرية، نير بوراز، وجرح 20 جندياً إسرائيلياً، واستشهاد الخلية الآسرة التابعة لـ«كتائب القسام».
في المحصّلة، فإن هليفي هو «إنسان مُركّب، ولكن لديه عمود قِيَمي»، كما وصفه القائد السابق لوحدة «8200»، أهود شنياورسون، مضيفاً أنه «بسبب امتلاكه حكمة التصرّف في الأوضاع المتطرّفة، والقدرة على خوض القتال والانتصار فيه»، فإن ذلك يعطيه ميزة للصمود أيضاً «في وجه المعارك السياسية غير البسيطة المتوقَّعة له كرئيسٍ للأركان».