انطوت أمس صفحة من الصفحات القليلة المتبقّية من زمن قيل عنه ذات مرّة إنّه جميل. نحن نتكلّم عن زمن كان فيه للإعلام معناه ورصانته وقوّته قبل أن ينزلق إلى التصنّع والرداءة والانحطاط. نتحدّث عن زمن كانت فيه للإذاعة مكانتها وللصحف مستواها قبل أن تجتاحنا نفايات المواقع الإلكترونية الملوّنة من كلّ حدب وصوب. نحكي عن زمن «تلفزيون لبنان» الذي تسمّر اللبنانيّون، على اختلاف انتماءاتهم، أمام شاشته قبل أن تفرّقهم قنوات الطوائف والأحزاب ورجال الأعمال بمحتواها المتردّي. عندما نقول «الزمن الجميل»، نحن لا نعني سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعياً، بل ثقافيّاً وفكرياً وفنّيّاً، وما سبق أبرز مثال على تحوّلنا من الجمال نحو القباحة.انطفأت صونيا بيروتي عن عمر ناهز الـ88 سنة، بعد مسيرة خصبة في الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب وحتى التمثيل والكتابة، اشتهرت خلالها في برنامجها الإذاعي «فنجان قهوة» على «إذاعة لبنان» كما في تقديمها برنامج «استديو الفنّ». الراحلة التي كسرت القواعد التنميطية السائدة في زمانها خصوصاً من حيث جنسها وصوتها وذكائها، وأثارت الجدل بطلّتها وملابسها وشعرها، كانت تنتقد تدنّي مستوى الإعلام والصحافة اليوم، رافضةً كلّ أشكال العنف، ونابذةً الطائفية، ومناصرةً المرأة في نضالها من أجل المساواة بما فيها حقّ إعطاء الجنسية لأبنائها.


ولدت صونيا سليم عون عام 1934 في الأشرفية (بيروت). كان والدها موظفاً في وزارة الخارجية ووالدتها (ماري رزق) عازفة بيانو، ولها شقيقتان (كلير ودنيز) وشقيق (جوزف). تزوجت بشارة بيروتي وأنجبا ولدين (أنطوان وبسام اللذان يعملان في مجال الاتّصالات والكومبيوتر)، لكن زواجهما لم يدم طويلاً، فانفصلا لتتزوج لاحقاً إحسان شاتيلا. تابعت دروسها الابتدائية والثانوية في «مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات»، والجامعية في «جامعة القديس يوسف» حيث نالت شهادة الدراسات العليا في العلوم والآداب الشرقية.
بعدما علّمت فترة وجيزة في المدرسة حيث تعلّمت، أخذها شغفها بالكتابة وتشجيع صديقتها الممثلة رضا خوري إلى الصحافة، فانضمّت إلى «دار الصياد» عام 1960 منغمسة في الأداء الصحافيّ من ألفه إلى يائه، ومتنقّلة بين مجلّة «الصياد» وجريدة «الأنوار» كمحرِّرة في مختلف الأقسام. بالتزامن، دخلت بمصادفة طريفة إلى الإعلام المرئي. يومها، جاء أحد زملائها من «تلفزيون لبنان» طالباً مَن يعاونه في تقديم برنامج للهواة (شعر، غناء، عزف). ذهبت صونيا إلى الاستديو وباشرت بتقديم الهواة وفي اعتقادها أنه بثّ تجريبي لصوتها وأدائها، لتكتشف لاحقاً أنّ البثّ كان مباشراً.
امتدّت مسيرتها هناك من 1960 إلى 1973 تخلّلها برنامج «المجلّة المتلفزة» الذي استمر نحو تسع سنوات (1960 - 1969) عارضاً مشاكل اجتماعية وثقافية وسياسية، وكان له جمهوره الخاص الذي اتّسعت قاعدته مع برنامج «استديو الفن». عام 1962، أصبحت سكرتيرة التحرير في مجلّة «الحسناء». وعام 1963 قرنت الصحافة المكتوبة والمرئية بالمسموعة، فانضمّت إلى «إذاعة لبنان» كاتبة ومعدة ومقدّمة لبرامج وحوارات، واستمرّت فيها حتى 1984، حيث اشتهرت ببرنامج «فنجان قهوة» (دام نحو خمس سنوات وتخلّلته «اسكتشات» كتبتها وشاركت بتمثيلها) محقّقةً نجاحاً كبيراً.
عملت بين 1964 و1965 محرِّرةً في قسم التحقيقات في صحيفة «النهار»، لتعود عام 1966 إلى «الحسناء» مديرةً للتحرير. تسلّمت رئاسة تحرير مجلّة «الشرقية» بين 1973 و1976 حين انتقلت إلى صحيفة «المحرّر» وعملت مدّة سنة. بين 1986 و1990، تولّت رئاسة تحرير مجلّة «الأناقة» وكتبت في مجلّتَي «فيروز» و«الفارس»، كما تولّت رئاسة تحرير مجلّة «لبنان 90» بين 1991 و1994 إلى أن ترأست عام 1999 قسم المرأة في صحيفة «المستقبل».
إضافةً إلى عملها الإعلامي، كانت في الثمانينيات مسؤولة الإعلام ومحاضِرةً في «معهد الدراسات النسائية للعالم العربي» (كلّية بيروت الجامعية -الجامعة اللبنانية الأميركية اليوم)، وكانت مسؤولة عن الإعلام في شركة «أوجيه لبنان»، وفي «اللجنة الدولية لحماية آثار صور» (1985)، وكذلك عملت بين 1996 و1997 مستشارة إعلامية لمؤسّسة «الذات» للإنتاج التلفزيوني. وإلى مآثرها الإعلامية، وضعت صونيا بيروتي ثلاثة مؤلّفات: «مواعيد مع البارحة» (شهادة مهنية) 1987، و«حبال الهواء» (مجموعة قصص) 1991، و«مدار اللحظة» (مجموعة قصص) 1995.
برحيلها فقد لبنان شخصية متعدّدة المواهب في مجال الصحافة والإعلام وغيرهما، في لحظة حرجة من تاريخه بات فيها بحاجة إلى أمثالها، وما أندرهم.