رام الله | لا شيء عاديّاً يجري منذ استلام حكومة اليمين الإسرائيلي، بزعامة بنيامين نتنياهو، السلطة، لكوْنها تحمِل في مكوّناتها كل عوامل التفجير التي لن تقتصر تداعياتها على الداخل الفلسطيني. من هنا، لا يعود مستغرباً مدى استعدادها للذهاب بعيداً في تنفيذ مخطّطاتها، والتي لا تزال حالة المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية تعطّلها، وإنْ كان لا يمرّ يوم من دون أن يشيّع الفلسطينيون أحد أبنائهم. لكن مستوطني اليمين يستعجلون حكومتهم في إحداث فارق على الأرض في ملفّ الاستيطان، وتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، فيما يتزايد حراك الحلفاء الغربيين المحرَجين لثني حكومة نتنياهو عن أيّ خطوة من شأنها تفجير الأوضاع
تثير حكومة اليمين الفاشية الإسرائيلية الفوضى والقتل والقلق في كلّ مكان، وهي التي جاءت بغية إنهاء القضيّة الفلسطينية، في ما يُعتبر تجاوزاً للخطوط التي رسمتها المنظومة الدولية وتوافقت في شأنها ضمن ما يسمّى بـ«المسار السلمي». وإنْ كانت تلك الأخيرة قد غضّت الطرْف طويلاً عن إرهاب إسرائيل، فهي تدرك أن ما تحمله حكومة بنيامين نتنياهو - إيتمار بن غفير، من شأنه أن يفجّر كل شيء، فلسطينيّاً وإقليميّاً؛ إذ تزداد عوامل التفجير على الأرض يوماً بعد آخر، في انتظار الشرارة التي يمكن أن تشعل الأوضاع، خصوصاً في ظلّ وجود أجواء مهيّئة، قوامها الاحتقان والغضب والقهر وتزايد جرائم العدو من قتل واقتحامات وتهويد.
ولا يكاد يمرّ يوم من دون أن يشيّع الفلسطينيون أحد أبنائهم؛ فقرب بلدة سلواد، أعدم جنود الاحتلال الشهيد أحمد كحلة (45 سنة) من قرية رمون، أمام ابنه. وفي تفاصيل الحادثة، فقد أَوقف هؤلاء مركبة كحلة يرافقه نجله، على حاجز عسكري، وبعد مشادة معهم، أرغموه على النزول وتجمّعوا حوله وتشاجروا معه قبل أن يطلقوا النار عليه متعمِّدين قتْله، ليرتفع عدد الشهداء، منذ بداية العام الجاري، إلى 13، 7 منهم من مدينة جنين. ولا تزال هذه المدينة تتصدّر المواجهة مع الاحتلال، سواء لجهة عمليات المقاومة أو عدد الشهداء، معتمدةً على تكاثر الخلايا المقاوِمة فيها، والتي خرجت من نطاق المخيّم إلى حيّز الريف الفلسطيني، حيث لا تقلّ مواجهات جبع وقباطية وغيرها من المناطق، عن اشتباكات المخيّم. وقد عاشت المحافظة، السبت، يوماً حزيناً ودموياً، فيما كانت تودّع ثلاثة من أبنائها، استشهد اثنان منهم (ينتميان إلى «كتيبة جبع») في اشتباك مسلّح، وثالث متأثّراً بجروح أصيب بها قبل أيّام، بعد 48 ساعة فقط من استشهاد شابّين في بلدة قباطية، وهو ما ينطبق أيضاً على مخيّم بلاطة والبلدة القديمة في نابلس.
مع هذا، يحافظ الفلسطينيون على ديمومة الاشتباك والمواجهة، على رغم الجهود الاستخبارية والأمنية التي تُبذل في سبيل وقْفها؛ إذ لا تزال حصيلة أعمال المقاومة اليومية عالية، من إطلاق النار والاشتباكات المسلّحة، إلى العبوات الناسفة والزجاجات الحارقة وإلقاء الحجارة والتصدّي للمستوطنين، وذلك في ظلّ تزايد التحريض الإسرائيلي على قتل المزيد من الفلسطينيين، خصوصاً من قِبَل أقطاب اليمين المتعجلّين تنفيذ وعودهم الانتخابية، والقلقين من استمرار حالة المقاومة في الضفة الغربية، ومن عدم قدرة الحكومة على وقْفها. ونقلت «القناة 13» العبرية عن ضابط في جيش الاحتلال، قوله إن «الضفة باتت أكثر استعداداً وجرأة للتصدّي لقوّاتنا بشكل لم نعهده في الأعوام السابقة، وهناك زيادة في استخدام الأسلحة في الشارع الفلسطيني». وفي الوقت ذاته، ارتفع عدد الجنود القتلى في حوادث مجهولة أو بنيران صديقة في مواقع التدريبات أو المعسكرات، من دون ذكر الأسباب والخلفيات. وفي هذا الإطار، أعلن جيش الاحتلال، صباح أمس، مقتل جندي وإصابة أربعة آخرين، أحدهم بجروح خطيرة، جرّاء انفجار قنبلة يدوية داخل قاعدة عسكرية في الأغوار، عازياً الحادث إلى وضْع جندي قنبلة في حقيبته الشخصيّة التي كانت بجانب سريره قبل أن تنفجر نتيجة الحركة في المكان الذي كان يجلس فيه سبعة جنود. وإلى هذا الحادث، قُتل ضابطان من وحدة «إيجوز» خلال جولة لهما في محيط قاعدة عسكرية في الأغوار، العام الماضي، بعد «خطأ في التشخيص» من قِبَل جنود آخرين اعتقدوا أنهما متسلّلان فلسطينيّان. وفي آب الماضي، قتل جندي قرب بلدة شويكة في طولكرم بنيران «صديقة» أيضاً، كما شهدت قاعدة عسكرية لجيش الاحتلال في مدينة جنين انفجاراً مدويّاً أدّى إلى انهيار جدرانها الداخلية، فيما سُجّلت حوادث متفرّقة، مِن مِثل مقتل جندي بنيران صديقه في النقب، وإصابة آخر في مدينة نابلس، وهو ما ترافق أيضاً مع ارتفاع عدد الجنود المنتحِرين، خلال عام 2022، إلى 14. وتدلّ المؤشرات المتقدّمة، بحسب متابعين، على تردّي المستوى العمليّاتي والنفسي لجنود العدو، خصوصاً في حالات التأهُّب الأمني، فيما يعتقد البعض أن جيش الاحتلال يخفي خسائره خلال المواجهات والاشتباكات مع المقاومين بهذه الطريقة.
لم يغب الأميركيون عن صورة التحرّكات الديبلوماسية في محاولة لاستيعاب حكومة اليمين


ويسود السخط من الحكومة الجديدة أوساط اليمين، على ضوء استمرار حالة الاشتباك في الضفة الغربية، والذي عزته صحيفة «إسرائيل اليوم» العبرية، بعد معاينة الوضع على الأرض، إلى أسباب عدة، لعلّ أبرزها ما سمّته «سلسلة الإجراءات التي تم اتّخاذها منذ تشكيل الحكومة ضدّ الاستيطان»، وعلى رأسها الفوضى المستمرّة التي تحيط بمسألة نقل المسؤولية عن 13 مستوطنة محيطة بالقدس من جيش الاحتلال، إلى الشرطة. وانطلقت في هذه المستوطنات، منذ الخميس، سلسلة تظاهرات احتجاجاً على نقل المسؤولية عنها إلى الشرطة، على رغم أنه تقرَّر، قبل نحو أسبوعين، تأجيل الخطوة. وتحدّثت الصحيفة عن غضب ناتج من تصرّفات حكومة نتنياهو في التلال، وأنه، منذ تشكيل حكومته، تمّ تنفيذ العديد من عمليات الإخلاء، وأن وزير الأمن، يوآف غلانت، أمر بالتجميد الفعلي لأوامر الإخلاء، بحيث تبقى المباني التي تم إخلاؤها في عهد بيني غانتس قائمة حتى نقل المسؤولية عن الإدارة المدنيّة للوزير بتسلئيل سموطريتش.
يستعجل مستوطنو اليمين حكومتهم في إحداث فارق على الأرض في ملفّ الاستيطان، فيما تجد حكومة اليمين العديد من العقبات التي لا تريد الاصطدام بها في بداية عهدها، منها تزايد الضغط المحلّي ضدّها، والذي بات يَظهر على شكل تجمّع أسبوعي في تل أبيب (وصل السبت إلى أكثر من 100 ألف متظاهر) أمام منزل نتنياهو، إلى جانب الحراك الدولي الضاغط، سواء أميركيّاً أو أوروبيّاً للحدّ من اندفاعة الحكومة لتنفيذ مشاريعها ومخطّطاتها، إنْ كان لجهة تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، أو الاستيطان في الضفة، أو حتّى مسألة إضعاف السلطة الفلسطينية وفرْض عقوبات عليها.
وفي هذا السياق، أعرب وزراء خارجية عدّة دول أوروبية عن قلقهم، الأسبوع الماضي، خلال محادثات مع وزير خارجية الاحتلال، إيلي كوهين، من قيام الحكومة باتّخاذ خطوات أحادية الجانب من شأنها الإضرار بحلّ الدولتَين، معربين عن خشيتهم من توسيع البناء في المستوطنات، أو الإضرار بالبنية التحتية الفلسطينية، أو تغيير الوضع الراهن في الأقصى. ودعا وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، كوهين، إلى تقديم أفق سياسي لحلّ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وتجنُّب الإجراءات الأحادية الجانب، معرباً عن قلقه إزاء العدد الكبير من الضحايا في الموجة الأخيرة من الأحداث. وفي الإطار ذاته، حثّ وزير شؤون الشرق الأوسط البريطاني، اللورد طارق أحمد، حكومة الاحتلال على الامتناع عن الأعمال الاستفزازية الأحادية في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلّة، والتي لا تؤدّي إلّا إلى تقويض فرص التوصّل إلى حلّ حقيقي وسلام في المنطقة، فيما استبق وزراء خارجية بريطانيا وألمانيا والنمسا وهولندا وإستونيا وكرواتيا وقبرص وغواتيمالا، اتصالهم بكوهين بالإعراب عن قلقهم من أن تضرّ الحكومة بأفعالها، بالعلاقات مع الفلسطينيين. وقال ديبلوماسي أوروبي لصحيفة «هآرتس»: «نحن نتابع عن كثب تصرفات الحكومة... زيارة الوزير (ايتمار) بن غفير إلى الحرم القدسي كانت مقلقة. نخشى أن تؤدّي تصرفاته الأخرى في المستقبل إلى اشتعال المنطقة».
ولم يغب الأميركيون عن صورة التحرّكات الديبلوماسية في محاولة لاستيعاب حكومة اليمين؛ فقد وصل المبعوث الأميركي، هادي عمرو، الخميس الماضي، إلى رام الله، حيث التقى رئيس الحكومة محمد أشتية، وأمين سر «اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير» حسين الشيخ، لبحْث التطوّرات السياسية، وتمهيداً لإنجاح زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، المرتقبة إلى المنطقة، والتي سيكون هدفها الأوّل إبقاء الأمور تحت السيطرة الأميركية، على قاعدة المثل الشعبي «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم».
لكن التحرّكات الديبلوماسية قد تتطاير أدراج الرياح في أيّ لحظة، ومع أقلّ حدث على الأرض، خصوصاً إذا لم يستطع اليمين الفاشي وقادته لَجم شهوتهم تجاه المسجد الأقصى في الشهرين المقبلَين اللذين سيشكّلان ذروة التصعيد مع حلول شهر رمضان والأعياد اليهودية، بالتزامن مع إعطاء وزير المالية بتسلئيل سموطريتش، أوامره لرسم خرائط لـ«المستوطنات الفتية» كجزء من جهود الاستيطان، ومن بينها ملفّ البؤرة الاستيطانية «أفيتار» على جبل صبيح في بلدة بيتا.