فاجأ رئيس «مجلس السيادة» السوداني، عبد الفتاح البرهان، المعنيّين في الداخل والخارج، بدعوته - بعد ساعات من الاحتفال بذكرى استقلال بلاده - القادة السياسيين إلى التوحّد وبذْل جهودهم لوضع أسس الدولة السودانية وبنائها، بعد تعهّده بتسليم السلطة لحكومة مدنية. وكرّر البرهان تحذيره ممّا سمّاها «سياسات "قوى الحرية والتغيير - اللجنة المركزية" الإقصائية، والتقليل من دور الآخرين، وعدم الاستماع إلى مطالبهم، وفرْض إرادة مجموعة محدَّدة، ممّا سيؤدي إلى تضييع الفرصة الحالية، ووضْع وحدة البلاد وأمنها في خطر عظيم». كما أعرب عن تطلّعه إلى توسيع قاعدة الإجماع السياسي تمهيداً لتسوية المسائل الجوهرية العالقة في «الاتفاق الإطاري»، والتي يُتوقّع البدء بمناقشتها في الـ9 من الجاري، بحسب تأكيدات «قوى الحرية والتغيير»، التي تجاهلت أزمة شرق السودان المتصاعدة، ورفْض قياداته القبَلية الانخراط في هذا المسار، ووصْفها الاتّفاق برمّته، على لسان زعيم «البجاه» سيد طريق (2 كانون الثاني)، بأنه «تراجع عن استقلال السودان».
هجمة مرتدّة
لم يكن متوقّعاً تسليم البرهان للقوى الديموقراطية، ممثَّلة في ما يُعرف بـ«اللجنة المركزية»، بقيادة المرحلة الانتقالية حتى مواعيد مفترَضة للانتخابات النيابية والرئاسية. وبالفعل، نجحت سياساته وخطاباته التكتيكية المتناقضة (على سبيل المثال، بين إعلانه المتكرّر استبعاده قوى إسلامية، ودعوته القوى المدنية إلى تجنّب سياسات الإقصاء)، في خلخلة تماسك تلك القوى، وإقصاء واحد من أبرز رموزها (ياسر عرمان) عن المشهد السياسي، وتوظيف حقيقة وجود هوامش كبيرة من القوى المدنية والمسلَّحة غير الموقِّعة على «الاتفاق الإطاري»، من أجل تسويف هذا المسار بحجّة الدعوة إلى حوار وطني شامل. وجاءت هجمة البرهان المرتدّة هذه، في وقت تتراجع فيه قوّة الحراك الشعبي وفق ما أظهرتْه ضآلة التجاوب مع دعوات الاحتشاد في كانون الأوّل الماضي، في مقابل نجاح رئيس «السيادي» في تدعيم روابطه بأطراف «الرُباعية الدولية». وهو نجاحٌ تجلّى بوضوح في تأكيده مطلع العام الجاري استمرار وجود القوّات السودانية الداعمة للتحالف السعودي في اليمن، وإعلانه الدخول على خطّ الأزمة في جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة، والتي تعدّ إحدى نقاط الصراع الأميركي - الروسي في القارة، في اتّجاه دعم السياسات الأميركية في وسط أفريقيا. وهكذا، تُمكن قراءة دعوة البرهان إلى إعادة إطلاق حوار سياسي وطني وشامل، بالتزامن مع إطلاق نائبه، محمد حمدان دقلو، عملية شاملة لإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية غربي السودان، على أنها انقلاب صريح على مقرّرات الاتفاق الإطاري، ومؤشّر واضح إلى تجدّد السعي لتشديد قبضة المكوّن العسكري - الأمني على مجمل المرحلة الانتقالية.

الرباعية الدولية والتسوية المبتسرة
لا يَخفى أن مساعي «الرباعية الدولية» لإطلاق مرحلة انتقالية «سليمة» في السودان، ترتبط بشكل كامل ووثيق بمصالح تلك الأطراف، الأمر الذي يضع «مجلس السيادة» راهناً، أو أيّ حكومة «مدنية» لاحقاً، أمام اختبار تحقيق هذه المصالح، على رغم محاولة دقلو التخفيف من وطأة الحقيقة المتقدّمة، باعتباره، مطلع الشهر الجاري، أن التدخّل الدولي يأتي «بناءً على مطالب سودانية»، من دون أن يوضح منطلقات المطالب المذكورة، أو كيفية صُنعها بالأساس في غياب مؤسّسات تشريعية وتنفيذية واضحة. حقيقة الأمر، هي أن ثمّة تنازلات سودانية صافية، مقابل حلحلة ملفّات مِن مِثل تطبيع العلاقات مع واشنطن، وفتْح الاقتصاد السوداني أمام استثمارات خليجية غير تقليدية (كاستئجار الموانئ المطلّة على البحر الأحمر، والانتفاع بمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية بالغة الخصوبة في الشرق)، والاندماج في نظام إقليمي فرعي يسمح بمساحات أوسع لقوى وأطراف إقليمية، من بينها الكيان الإسرائيلي، من أجل الاستفادة من موارد السودان الجيواستراتيجية والطبيعية على المدى البعيد.
وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية المستحكِمة في البلاد، لا يمكن أن يُتوقَّع إلّا تعميق هذا المسار، عبر الضغط المستمرّ على الخرطوم من أجل الاستجابة لمطالب «الرباعية». وهي ضغوط ستستفيد من تداعيات تلك الأزمة، والتي اتّضحت في وضع وزارة المالية السودانية مشروع موازنة عام 2023، على رغم تأكيد مسؤوليها وعدد من الاقتصاديين السودانيين عدم وجود ضمانات كافية بتطبيقها حال موافقة مجلس الوزراء عليها، فضلاً عن تصاعُد موجات الإضرابات النقابية منذ نهاية عام 2022، والتي يُنتظَر استمرارها بقوّة وزخم كبيرَين في العام الجاري، بما يذكّر بحركة الإضرابات التي سبقت سقوط نظام عمر البشير. وتضاف إلى ما تَقدّم، مؤشّرات خطيرة للغاية حول وصول نسبة مَن يعانون من انعدام أمن غذائي في السودان في أيلول 2022 إلى 40%، وتزايُدها في الأشهر الأخيرة لتصل إلى ما يقرب من 50%؛ ومن ثمّ، فإن رافعة المساعدات والدعم المالي الخليجي تكتسب أهمية قصوى في ذلك المناخ.
وعلى أيّ حال، تظلّ سياسات «الرباعية» دافعة بقوّة في اتّجاه أيّ تسوية متعجّلة لا تأخذ في الاعتبار الاستقرار بعيد الأجل، وفق ما كشفته تعليقات متفرّقة لمسؤولين دوليين، من بينهم فولكر بيرتس، مبعوث الأمم المتحدة في السودان، عن الاتفاق الإطاري و«اتفاق جوبا للسلام» (المُوقَّع منذ تشرين الأوّل 2020، والذي لم يحقّق تقدّماً حقيقياً حتى الآن)، باعتبارهما محاصصات سياسية، وليسا عمليتَين مرحليتَين لتيسير حلّ سياسي شامل ومستدام للأزمة، مع اعتراف فولكر نفسه في الأمم المتحدة (أيلول 2022) بصعوبة المُضيّ قُدُماً في تنفيذ «اتفاق جوبا»، ومطالب «قوى الحرية والتغيير» باستبدال «الاتفاق الإطاري» المبتسر حتى الآن، به.

مصر على خطّ الأزمة
في خطوة مباغتة نسبياً، توجّه مدير المخابرات المصرية، عباس كامل، إلى الخرطوم في الـ2 من الجاري، لمقابلة قادة في «قوى الحرية والتغيير»، بمَن فيهم «الكتلة الديموقراطية» المعارِضة لـ«الاتفاق الإطاري». وعَرض كامل، خلال الزيارة، استضافة القاهرة جولة محادثات بين القوى المدنية المختلفة في السودان، والتي رفضت بدورها، بحسب منافذ إعلامية سودانية، الدعوة المصرية بعد ساعات قليلة من عرْضها. وجاء هذا الرفض على خلفية مواقف معروفة لم تفلح جهود مصرية سابقة في اختراقها، سواءً رسمياً أم شعبياً، كما اتّضح في تحفّظ قادة «الحرية والتغيير»، وطلبهم من المسؤول المصري انخراط القاهرة «في الجهود الجارية لإقناع المجموعات المعارضة (للتسوية مع العسكر) وتلك المُوقِّعة على اتفاق جوبا للسلام بالانضمام إلى الاتفاق الإطاري»، ما يعني حرص تلك القوى على استمرار دور مصر في حدّه الأدنى من ناحية، ومطالبة القاهرة بالضغط على «الكتلة الديموقراطية» التي يملك العديد من مكوّناتها صلات جيّدة مع الأولى.
تتّسق دعوة البرهان الأخيرة مع سياساته القائمة على القفز فوق أيّ استحقاقات ديموقراطية

على أنه في ضوء تسارُع التطوّرات الإقليمية، وتعمّق نفوذ «الرباعية الدولية» في الشأن السوداني سياسياً واقتصادياً، فضلاً عن علوّ كعب المكوّن العسكري الذي حرصت مصر نفسها على تعزيز حضوره ودوره في المرحلة الانتقالية على طول الخطّ، فإن زيارة كامل تبدو أقرب إلى أن تكون جزءاً أصيلاً من جهود البرهان الهادفة إلى تفكيك «الاتفاق الإطاري» ومتطلّباته.

خلاصة
تتّسق دعوة البرهان الأخيرة إلى إطلاق حوار سياسي وطني شامل، مع سياساته القائمة على القفز فوق أيّ استحقاقات ديموقراطية، بموازاة تعميق نفوذه الداخلي والإقليمي، وصولاً إلى تقديم نفسه بوصْفه الخيار المستقبلي «المنطقي الوحيد» لقيادة البلاد، بعد انتخابات شاملة سيكون لـ«التيّار الإسلامي» الدور الحاسم فيها لصالح الرجل، على خلاف ما يروَّج راهناً. وهكذا، يُتوقّع أن تثمر الدعوة واحداً من سيناريوَين: إمّا توسيع قاعدة «الاتفاق الإطاري» الحالي بضغط من مجموعات خارجه حالياً، وإمّا إعادة إطلاق عملية سياسية «شاملة» تؤدّي بالضرورة إلى إطالة متجدّدة للمرحلة الانتقالية التي تقترب من عامها الرابع.