تتواصل مفاعيل قرار القضاء التركي سجْن رئيس بلدية إسطنبول ومنْعه من ممارسة العمل السياسي، وسط تفاوت في تقدير آثاره على الانتخابات الرئاسية المنتظَرة في حزيران المقبل. وإذ بدأت المعارضة بالفعل بحْث خياراتها إزاءه، فإنها لم تتّفق بعد على الآلية الأنسب لذلك، وسط تحذيرات بعض وجوهها من أن الإصرار على ترشيح أكرم إمام أوغلو قد يفضي إلى تقديم الرئاسة إلى رجب طيّب إردوغان على طبق من ذهب. على أن الاحتمال الذي يثير القلق في صفوف «العدالة والتنمية» هو أن يفلح المُعارضون في استثمار مناخ المظلومية الذي ولّده القرار الأخير، من أجل تعزيز أوراقهم في مواجهة الرئيس الحالي
ستعيش تركيا، لبعض الوقت، في ظلّ قرار سجْن رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، ومنْعه من ممارسة العمل السياسي؛ ذلك أن للقرار تداعيات مفصليّة على سيْر المعركة الرئاسية المرتقبة في حزيران المقبل، ولا سيما وأن إمام أوغلو كان يُعدّ أحد أبرز المنافسين المحتمَلين للرئيس رجب طيب إردوغان. ومع أن القرار لا يزال يحتاج إلى إقراره في محكمتَي التمييز والعليا، إلّا أن الباب لم يُغلق نهائيّاً أمام احتمال ترشُّح إمام أوغلو، والذي يمكن أن يسري - في حال جرت الانتخابات - قبل أن يُصدِر القضاء قراره النهائي. وفي حال فوز الرجل، تُجمَّد جميع القرارات الخاصة التي يمكن أن تُتّخذ بحقّ الرئيس الفائز. لكن الرئيس الحالي لـ«اللجنة العليا للانتخابات»، محرم أق قايا، دخل على خطّ النزاع بين السلطة والمعارضة، حيث كان له «تفسيره واجتهاده الخاص»، قائلاً إنه «لا شيء يمنع إمام أوغلو من الترشُّح للانتخابات، ولن يمنعه أيّ حكم من ذلك. ولكن في حال فوزه، فإن اللجنة لن تعطيه وثيقة الفوز»، ما يعني أن عليه التوقّف عن ممارسة مهامّه، وأن انتخابه سيُعتَبَر غير شرعي. ويَنظر المراقبون إلى تصريحات آق قايا على أنها انحياز واضح إلى جانب إردوغان، وأنه أراد من وراء قوله هذا، إفهام المعارضة ضرورة أن تُخرِج من رأسها نهائيّاً فكرة ترشيح إمام أوغلو للرئاسة. وبدوره، رأى إردوغان أن قرار محكمة إسطنبول «قضائي ولا يجب إدخال السياسة فيه»، متّهماً المعارضة بـ«محاولة الاستثمار السياسي في القضيّة».
لكن ترشيح إمام أوغلو يحمل مُخاطرة كبيرة جدّاً؛ فماذا لو رشّحته «طاولة الستة» بالفعل للرئاسة، ودفعتْه إلى خوض المعركة وإقامة المهرجانات، وقبل وقت قصير من الانتخابات، حتى لو بأيّام قليلة، اتّخذت المحكمة قرارها النهائي بتثبيت حُكم السجن والعزل السياسي عليه؟ حينها، تكون «الطاولة» ارتكبت خطأً استراتيجيّاً مميتاً، وقدّمت الرئاسة على طبق من ذهب إلى إردوغان. ثمّ إن التحالف المُعارض لا يمكن أن يلجأ إلى خطوة ترشيح إمام أوغلو، لأنها ستضع رأسه، طوال الفترة المقبلة، تحت سيف قرار المحكمة، وبالتالي السلطة الحاكمة. في المقابل، ثمّة رأي في المعارضة يذهب إلى أن المسار القضائي للقرار لن ينتهي قبل سنة ونصف سنة، وإلى ذلك الحين، يكون إمام أوغلو والمعارضة قد ضربا ضربتهما. غير أن مسؤولاً في حزب «المستقبل» الذي يرأسه أحمد داود أوغلو، يرفض هذا السيناريو، على اعتبار أنه لا يمكن المغامرة بعدما وضَعت السلطة حبل المشنقة حول عنق إمام أوغلو. لذا، فإن «طاولة الستة» أصبحت، اليوم، تبحث في كيفية الاستفادة القصوى من مناخ المظلوميّة الذي ظهر فيه الرجل، عبر اختيار مرشّح جامع يمكن أن يقلب القرار على مَن اتّخذه، بدلاً من أن يكون فرصة للتخلّص من إمام أوغلو. ويثير هذا الاحتمال، بما يعنيه من انتقال الشعور بالمظلومية من إردوغان، الذي طالما حاول الظهور بمظهر المغدور، إلى خصمه أيّاً كان، القلق في أوساط حزب «العدالة والتنمية»، خصوصاً وأن العديد من الكتّاب المؤيّدين للحزب أعربوا عن معارضتهم قرار المحكمة.
يعكس القرار إفلاس الحكومة التركية التي لم يَعُد أمامها سوى محاولة شقّ المعارضة


وفي هذا المجال، يقول عبد القادر سيلفي، المقرّب جدّاً من الرئيس التركي، في «حرييات»، إنه كان ضدّ قرار المحكمة عام 1999 بسجن إردوغان ومنْعه من ممارسة العمل السياسي، كما كان ضدّ منْع جنان قفطانجي أوغلو، مسؤولة «حزب الشعب الجمهوري» في إسطنبول من العمل السياسي قبل أشهر فقط، وهو يعارض الآن قرار المحكمة الخاص بأكرم إمام أوغلو. ويضيف سيلفي، في مقالتَين متتاليتَين، إن «القرار لن يفيد إردوغان، لأنه حتى لو خاض المعركة ضدّ كمال كيليتشدار أوغلو، فإن الناخب سيصوّت للأخير كما لو أنه يصوّت للضحيّة إمام أوغلو». كما كان لرئيس البرلمان ووزير العدل ونائب رئيس الحكومة السابق، جميل تشيتشيك، رأيٌ بارز لجهة الاعتراض على القرار، إذ يلفت، في حوار صحافي، إلى أن «مرور ثلاث سنوات على جملة قالها أكرم إمام أوغلو حول «غباء» المحكمة، وعدم فتح تحقيق إلّا بعد هذه المدّة، يَطعن في قانونية القضية، كما في صحّة القرار. كذلك، فإن اتّخاذ هذا القرار السياسي في لحظة حسّاسة من تاريخ تركيا يجعل منه غير صائب وغير مقنع». ووفق تشيتشيك، فإن «القرار يجعل من القضاء المشكلة الأولى في تركيا. فالقضاء بهذه الخطوة، أَلحق أكبر ضرر بالبلاد».
من جهتها، تصف نيغيهان ألتشي، في صحيفة «خبر تورك»، قرار المحكمة الذي «ألقى قنبلة موقوتة في المجتمع التركي»، بأنه «غير قانوني وعديم الضمير. وبهذا القرار الجائر، دخلت تركيا في ممرّ ضيّق». وتضيف أنها ككاتبة، تشعر بالقلق الشديد على بلادها، داعيةً إردوغان إلى التبرّؤ من كلّ أنواع الحظر السياسي، وإقرار ذلك في البرلمان وإنهاء القضيّة. وبحسبها، فإن أحداً من أعضاء «العدالة والتنمية» لم يؤيّد القرار، لكن أحداً لم يُدِنه، «وأيّاً كان الفائز من المعارضة في انتخابات الرئاسة، سيكون نائباً لإمام أوغلو». ويكتب المفكّر البارز إيمري كونغار المعارض لسياسات إردوغان، في صحيفة «جمهورييات»، بدوره، أن القرار الأخير يرمز إلى تهالُك السلطة في تركيا. ويُعدّد دلالاته، قائلاً:
1- يشير القرار إلى انتهاء مشروع الإسلام المعتدل الذي قادتْه الولايات المتحدة الأميركية، وإلى أن هذا المشروع، كنموذج، قد أَفلس؛ ذلك أن الإسلام السياسي، وبدلاً من أن يقيم حُكماً ديموقراطياً، اتّجه نحو إقامة حُكم الاستبداد والفرد الواحد.
2- يعكس القرار إفلاس الحكومة التركية التي لم يَعُد أمامها سوى محاولة شقّ المعارضة.
3- إن السلطة لم تهضم بَعْدْ خسارتها لبلدية إسطنبول، وتريد استعادتها، وخصوصاً أن بديل إمام أوغلو إذا أُقيل في هذه الحالة، يُنتخب من أعضاء المجلس البلدي الذي يسيطر عليه حزب «العدالة والتنمية».
4- يعكس القرار فقدان القضاء بشكل كامل لاستقلاليته وخضوعه لإمرة السلطة السياسية.
5- إن العقلية الانقلابية للأحزاب الدينية القائمة منذ العهد العثماني، لا تزال مستمرّة.
6- يعكس القرار رعب الحكومة من احتمال فوز إمام أوغلو في الانتخابات الرئاسية.
ويقول كونغار ختاماً إن أحداً لا يمكن أن يتنبّأ بما سيجري، لكن يجب «ألّا يشكّك أحد في أن مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والنظام الديموقراطي ستنتصر في النهاية».