الخليل | رغم استمرار الحرب على قطاع غزة واتساع رقعة المجازر، لا تزال الضفة المحتلة محكومة بردّ الفعل الآني. فالإضراب التجاري العام وإعلان الحداد لم يأتيا إلا بعد مجزرة الشجاعية، أي بعد أكثر من عشرة أيام على الحرب التي لم يكتمل عدد شهدائها وجرحاها ونازحيها حتى اللحظة. هذا الإضراب جاء بقرار من رئيس السلطة محمود عباس، ما يعني أن قراراً بسيطاً كالحداد على شهداء الوطن لم يكن شعبياً أو عفوياً، بل جاء مرهوناً بما قررته السلطة راعية التنسيق الأمني، حينما شعرت بأن الاحتقان الشعبي قد يصل خيط النهاية.
وبينما استمرت المجازر في الأحياء والمخيمات الفلسطينية مع نزوح ما يزيد على 153 ألفاً من بيوتهم في غزة، يتفجر الغضب الشعبي هناك متسائلاً عن سبب اختفاء هبّة الضفة التي كانت شرارة التصعيد الأولى في الجولة الأخيرة. ليس دفاعاً عن سكوت الضفيين ولا تضخيماً للمواجهات والاحتكاكات اليومية مع الاحتلال، لكن إجابة السؤال عن الضفة وحضورها يحتاج فهم الواقع الذي أوصلته إليه أوهام السلام الاقتصادي والطريق الثالث.
كان الطريق الثالث شعار القائمة الانتخابية التي ترأسها رئيس وزراء الأسبق، سلام فياض، خلال انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، مع الوعد بخطط التنمية وبناء مؤسسات الدولة. مع زيادة المديونية وقروض البنك الدولي صار الشعار الانتخابي استراتيجية لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني والقضاء على أي حاضنة شعبية ممكنة للمقاومة.
في الخطوة الأولى قدمت «استراتيجية الطريق الثالث» فرضية أن الطريق الأول الذي يمثله الكفاح المسلح والانتفاضة قد انتهى، وأن الطريق الثاني المتمثل في المفاوضات وصل إلى طريق مسدود، ونتيجة لذلك فإن النهج الجديد هو بناء مؤسسات حديثة وتحقيق تنمية اقتصادية تعتمد على مبادئ الليبرالية الجديدة من أجل فرض أمر واقع أمام العالم، مفاده أن الفلسطينيين قادرون على إدارة أنفسهم بطريقة تسمح لهم بالحصول على دولة معترف بها دولياً.

يجب فصل الحالة داخل
المخيمات عن المدن وحتى
عن نقاط التماس

من هنا بالضبط وقعت المنظومة المجتمعية في الضفة في فخ ارتهان الشعب لنظام القروض البنكية، إذ وصل إجمالي القروض والتسهيلات المقدمة، في القطاعين العام والخاص حتى نهاية شباط 2014 نحو 4.6 مليارات دولار، وهكذا تهافت الناس نحو السيارات والشقق التي أصبحت الهمّ اليومي لهم ولا يشغل بالهم سوى كيفية سداد قروضهم، ولا يمكن ذلك إلا بصرف رواتبهم من السلطة، ما جعل الناس في دائرة مغلقة بين انتظار الراتب وموعد القرض.
بالتوازي مع هذه الخطة، برز عنوان «القضاء على الفلتان الأمني» تحت هدف مبطن هو تفكيك ما بقي من حركات المقاومة المسلحة، عبر اعتقال المقاومين ممن رفضوا تسليم أنفسهم وأسلحتهم، وعقاب أي حاضنة شعبية لهم، وذلك ما بين عامي 2007 ـ 2014.
وتحت مسلمة أنها أسلحة غير شرعية وتهدد السلم الأهلي، بدأ الشارع الفلسطيني يصف أسلحة المقاومين بأنها خارجة عن القانون ويجب التخلص منها، ما أعطى السلطة حرية في إتمام هذه المهمة. شيئاً فشيئاً بدأ أهل الضفة ممن لم يعتقل أو يقتل يغضون الطرف عن تزايد الاستيطان ومصادرة الأراضي وتشريد الناس عن بيوتهم وهدمها، لكن شذ عن ذلك محورا احتكاك، أحدهما داخل مخيمات اللاجئين والثاني خارجها.

المخيمات فتيل المواجهة

تدرك السلطة والفريق الأمني الأميركي المرافق لها أن المخيمات أصل الحكاية، وأن فتيل أي مواجهة من شأنه أن يؤدي إلى انتفاضة ثالثة في المخيمات. على سبيل المثال، تشكل مخيمات قلنديا والجلزون في رام الله، والعروب والفوار في الخليل، نقاط تماس مباشرة مع الاحتلال، ولا تكاد تنقضي مواجهة دون شهداء وجرحى، حتى وصل الاحتقان إلى مخيمات تصنف أنها خارج دائرة المواجهة مثل الفوار جنوب الخليل.
ولم تقتصر المواجهات في المخيمات على إلقاء الحجارة على دوريات الاحتلال ومنعها من التوغل داخلها، بل اتخذت طرقاً أخرى جعلت خطاب «الفلتان الأمني» يعود إلى الواجهة مرة أخرى. ومنها جنين الذي لا يزال عصياً على مشاريع الهندسة الاجتماعية، وهو المخيم الذي تشكلت فيه خلايا عسكرية لحركات حماس والجهاد الإسلامي وبعض ناشطي فتح «ما بقي من كتائب شهداء الأقصى». تلك الخلايا وجدت نفسها في مواجهة مع قوات الاحتلال، وأيضاً قوات الأمن الفلسطينية التي هي في حالة اشتباك مستمر.
في المقابل، إن عملية تفكيك نوى الخلايا العسكرية في المخيم لم تمر مرور الكرام بالنسبة إلى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ففي 22 أيار 2014 استشهد ثلاثة مواطنين، وأصيب سبعة آخرون في اشتباكات مسلحة اندلعت بين مسلحين وقوات إسرائيلية اقتحمت جنين وحاصرت المنزل الذي كان فيه حمزة أبو الهيجا، وهو أحد قادة كتائب القسام (حماس). ذلك اليوم أطلق الاحتلال وابلاً من الرصاص والقذائف نحو المنزل، ما أدى إلى استشهاد أبو الهيجا. خلال تلك العملية جرت مواجهات مع القوة التي نفذت عملية الاغتيال، ما أدى إلى استشهاد محمود أبو زينة (25 عاماً) من سرايا القدس، الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي، والشهيد يزن محمود باسم جبارين، من كتائب الأقصى (فتح)، بعد إصابتهما بعدة رصاصات في أنحاء متفرقة من جسديهما. هذا كله أعاد المخيم إلى الواجهة من جديد.
أما في المخيمات التي تقع تحت سيطرة الاحتلال مباشرة، فاعتُمدت سياسات أخرى. في مخيم العروب مثلاً، اتبعت قوات الاحتلال أسلوب العقاب الجماعي لأهالي المخيم عن طريق اعتقال الفتية وتعذيبهم، وتوقيع تعهدات بعدم رمي الحجارة، لأنها ترى أن أولئك الفتية هم القوة المحركة لأي مواجهة مع الاحتلال، وبالتحديد على بوابة المخيم التي يتحكم الجيش الإسرائيلي في فتحها وإغلاقها، بالإضافة إلى سياسة هدم بيوت المشاركين في المواجهات. من ذلك أنه في 30 نيسان 2014 هدم الاحتلال منزلين في العروب يملكهما المواطنان حلمي وحسن أبو غازي عقاباً لهما على مشاركة أبنائهما في إلقاء الحجارة!

خارج المخيمات

كذلك يجب رصد جهة أخرى هي نقاط التماس المباشرة مع الاحتلال خارج المخيمات، خاصة في المدن. مثلاً هناك مناطق باب الزاوية، وجيشوري، وبيت إيل في الخليل وطولكرم ورام الله. هنا تحديداً تتمثل مهمة الأمن الفلسطيني في تشكيله حاجزاً بين الشباب وقوات الاحتلال لمنع أي مواجهة من الاندلاع، وفي النتيجة امتداد حلقة المواجهات لتشمل مناطق المدينة.
يمكن القول إن المزاج الشعبي بعد عملية المستوطنين الثلاثة في الخليل بدأ يتغير، وإن كان ذلك بصورة بطيئة وتدريجية، في ظل تسجيل رفض التجار في المنطقة أن تتدهور الأوضاع خوفاً على مصالحهم. رغم ذلك، يبقى وقوف الأمن الفلسطيني حاجزاً بين الاحتلال والشباب فكرة قابلة للتكسير، لكنها بحاجة إلى وقت. يبقى السؤال: ماذا عن الحاضنة الشعبية للمقاومة داخل المدن؟
عند هذه النقطة بالذات، أدرك من في السلطة المعادلة التي تحكم علاقة الناس بعضهم ببعض في المخيمات أو المدن، وعملت على استهداف ذلك ضمن إعادة الهندسة الاجتماعية المستمرة. في هذا السياق جرى العمل عبر الضغط على وجهاء العشائر لوقف أي احتقان شعبي في طور التكوين، ومنع الناس من التحرك خارج الخطوط المسموح بها.
في سبيل ذلك، تعمل المجالس البلدية ووجهاء العشائر بصورة متقاطعة على لجم أي حراك على الأرض بل استنكاره. بهذه الوسيلة صاروا يقفون مع السلطة في الخندق نفسه المضاد للمقاومة. ووقت العملية العسكرية، التي لم تنته تماماً، في الخليل خرج وجهاء المدينة والمجلس البلدي ببيانات استنكار للعملية، وخاطبوا المجتمع الدولي لينهي ردّ الاحتلال ضمن الأدوات القانونية والحقوقية. كذلك لم تجر الإشارة إلى أي فعل مقاوم من شأنه إيقاف العملية العسكرية ومنع هدم البيوت، وإيقاف حملات الاعتقال والتفتيش التي طاولت كل مكان في المحافظة.
نتيجة لما سبق، لا يزال التفكير في أي عمل مقاوم ضمن المستوى الفردي، لأن الهندسة الاجتماعية في مدن الضفة جعلت المقاومة هماً فردياً بدلاً من أن يكون جماعياً. مع ذلك، هناك أشخاص حاولوا التصرف وأخذوا زمام المبادرة (القنص في الخليل ـ إطلاق النار على المستوطنين في الطرق الالتفافية ـ عمليات الطعن).




كرة الثلج تتدحرج

كل ما يجري في الضفة المحتلة وحولها صار مثل كرة الثلج التي تتراكم وتتدحرج، وجاءت الحرب على غزة لتُسهم في بيان ملامح المشهد، لكنه لا يزال غير واضح التوقيت والظروف بشأن اشتعال الانتفاضة. يساند ذلك إدراك الناس أن كل ما تفعله السلطة الفلسطينية مجرد وهم سياسي.
أمس جرت مواجهات في أرجاء الضفة بين قوات الاحتلال والشباب من جهة، وبينهم وبين السلطة من جهة أخرى. هي مواجهات تنمّ عن بداية تشكل حاضنة لفعل مقاوم قد تتطور بعيداً عن مشاريع إعادة الهندسة الاجتماعية. اللافت في المواجهات أن غالبية من يخوضها هم شباب متعطلون من العمل ولم يدخلوا في دائرة التهجين التي تقودها رام الله. رغم ذلك، تدخلت أمس مثلتها مكبرات الصوت في المساجد، ففي طولكرم صارت المساجد تنادي الشباب قائلة إن الأمن من أبناء الشعب ولا يجوز مواجهتهم.
بعيداً عن التفاؤل والتشاؤم، لا يزال مجتمع الضفة يعيش في تناقض مستمر، لأن كل مشاريع الرخاء الاقتصادي التي وعدوا بها لم يجدوها، فضلاً عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية وازدياد معدلات الفقر، وكلها أمور من شأنها قلب الطاولة.