انطفأ أول من أمس، في مدينة حلب، صفوح شغالة (1956- 2022)، أبرز شعراء الأغنية في سوريا، تاركاً في رصيده أكثر من ألف وخمسمئة أغنية موزّعة على معظم حناجر مطربي اليوم، إذ حقّق حضوراً عربياً لافتاً باعتماده اللهجة البيضاء في تصدير أغنية شعبية تنطوي على صورة شعرية محمولة على شجن عاطفي، ونبرة تطريبية، فكانت كلماته نوعاً من قارب نجاة لمعظم أصوات اليوم، بعدما غرقت الأغنية العربية بالابتذال، ففي تجربة هذا الشاعر ينتصر المعنى جنباً إلى جنب مع النغمة الموسيقية. بالطبع يصعب أن نحصي الأغاني التي حملت توقيعه وعبرت الحدود، كما لا يمكننا تجاهل انخراطه في الموجة السائدة، استجابة لمزاج المرحلة، فمثلما أهدى أغنيات ثقيلة لجورج وسوف، وشادي جميل، ولطيفة التونسية، ورويدا عطية، ونجوى كرم، انساق ـ في المقابل ــ وراء أصوات هيفا وهبي، وميريام فارس، ونانسي عجرم، ودينا حايك، وأخريات. لكن مخزون صفوح شغالة الدسم والنوعي والأخّاذ، سنجده في القصائد التي غناها مطربو حلب الكبار أمثال شادي جميل، وحمام خيري، وسمير جركس، ونور مهنا، وميادة بسيليس، وشهد برمدا، محققاً نقلة نوعية في الفضاء الطربي الحلبي، خارج الحضور التاريخي للقدود الحلبية، إذ أهدى مدينته المنكوبة أكثر من أغنية تنطوي على حنين إلى شوارع حلب وقلعتها بعدما دمّرتها الحرب لسنوات، كما طعّم نصوصه العربية بمفردات اللهجة الحلبية، باعتبارها عاصمة الطرب الأصيل، مؤكداً استمرارَ حضور هذه المدينة في الذاكرة، على رغم دمارها.
هكذا حضرت القلعة كرمز حي ومتجدد للمدينة. برز اسم صفوح شغالة في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم كشاعر غنائي متفرّد، فمنح الأغنية السورية نَفساً جديداً، قبل أن تجذب كلماته عشرات المغنين العرب إلى فضاء مختلف يتأرجح بين الشعبي والطربي، مانحاً معجم الغرام دفئاً مفقوداً، وشجناً آسراً، وروحانية عالية، بعيداً عن «الزحمة» والفوضى الغنائية، إذ وضع الشعر المحكي في مقامٍ خاص، نظراً إلى تعدّد مرجعياته الشعرية. مزج التراث الحلبي بمكوّنات مختلفة، ما جعل السماع يسمو عمّا عداه. أغنية «طبيب جرّاح» التي غناها جورج وسوف مثلاً، من الأغاني المرتحلة من زمن إلى آخر، وكذلك أغاني شادي جميل، وحمام خيري، بوصفها محكيات أصيلة نابعة من روح شعرية متألقة، لا تخضع للآنيّ والعابر بقدر عنايتها بالصورة الشعرية المبتكرة والشجن الأصيل، والتحديقة المختلفة للأحاسيس. على المقلب الآخر، كتب صفوح شغالة عشرات القصائد الغنائية الوطنية في تمجيد مدينة حلب بقصد إعادة إعمارها روحياً، ووصل ما انقطع من تراثها، وردم المسافة بين صوت صباح فخري، وما تلاه من أصوات طربية جديدة أعادت للمدينة خصوصيتها الغنائية المتفرّدة «حبك عجبيني نكتب/ وقلبي بحبك ما كذب/ انت عندي بالدني المنى وعز الطلب/ تسلميلي تسلميلي يا حلب» يقول، وأغنية «آهين يا حلب» بصوت نهاد نجّار، وكان آخر ما كتبه في الأغنية الوطنية «عاشت سوريا... تحيا مصر» التي غناها هاني شاكر في «دار الأوبرا» السورية قبل أشهر. غاب صفوح شغالة تاركاً جمرة أسى في أرواح السوريين والعرب، إذ نعته وزارة الثقافة السورية، وعشرات الفنانين العرب الذين عبّروا عن فداحة الخسارة بفقدانه. وقد شُيّع جثمانه أمس، إلى مثواه الأخير في «مقبرة الشيخ جاكير» في حلب.