لم يعرف العدو التواضع يوماً. ظلّ، على الدوام، يتصرف بفوقية إزاء أعدائه، نحن العرب. قبل ثماني سنوات، أنهكه غروره في لبنان. وبعد كل ما مر من وقت، لم يقبل العدو الهزيمة، لأنه لم يغادر الغرور. وفي كل مرة، حاول طمأنة نفسه الى أن المقاومة في فلسطين لا تملك ما يرفعها الى أعلى منه، كان يحفر شبراً إضافياً في قبره. وعندما منح العدو لنفسه حق اعتبار المقاومة شيئاً شبيهاً لأولئك الذين يفاوضهم، يأخذهم ويعيدهم خالي الوفاض، وجد نفسه في فخ غروره.
ما كان بمقدور العدو الذي فشل فشلاً استخبارياً هائلاً عند خطف المستوطنين الثلاثة أن يتواضع ويتراجع. وأن يعرف أن للقوة حداً، وأن حد القوة هو الهزيمة بعينها. وعندما اعتقد العدو أنه يقدر على معاقبة من يريد، وساعة يريد، وأينما يريد، وكيفما يريد. مرة جديدة، قتله غروره، وها هو يقوده الى حتفه المؤكد.
ماذا بوسع العدو أن يفعل اليوم؟ مزيد من الحديد والنار. والمزيد من الدماء والأوجاع. ما لم يعرفه العدو بعد ستين عاماً من القتل، أن الناس عندنا لا يحصون عدد الشهداء، ليس قلة احترام لهم، ولا احترافاً للموت، بل لأنهم يرسمون حدود الوطن الحقيقي.

لا حياة لمن
يقاتل المقاومة أو يحاصرها، ولا حياة لمن يحاول استغلال المقاومة
نحن نحصي قتلاهم وخسائرهم، ونحصي المزيد من الصور التي ترسم صورة النهاية لكيان مفتعل، لا مجال لبقائه. أهله يقولون لنا كل يوم إنه لا مجال لبقائه، ولا لبقائهم هم كبشر بيننا، وإنه ليس من قاتل يرسم حدود بيته بالدماء ويبقى قادراً على الحياة.
ماذا بوسع العدو أن ينال بعد من هدايا، ومن يعتقد أنه قادر على منحه جائزة ترضية أصلاً؟ ما تقوم به «مصر الجنرال» ليس له لون عربي، ولا روح عربية، ولا اسم عربي. وإذا كان العدو يأمل من «الجنرال» نتيجة من الضغط على المقاومة، فهو واهم، مثل أولئك الذين يعتقدون أن رفع لافتات المقاومة يمنحهم أرجلاً يقفون فيها على أرض صلبة. لا حياة لمن يقاتل المقاومة ويحاصرها، ولا حياة لمن يحاول استغلال المقاومة واستثمارها.
ما يحصل في غزة منذ أيام هو حصيلة أولية لعملية صمود طويلة، ومثابرة نادرة من جانب مقاومين صبورين، وجهد خيالي لحفظ عناصر القوة ومفاجأة العدو وردعه. وهذه الحصيلة تنمو كل ساعة بدماء شهدائها. وصراخ أهل المقاومة هو صراخ الطفل في حالة نموه.
أما عندهم، أولئك الذين لا مكان لهم على أرضنا، فكل دمائهم تذهب في أرض مجهولة لا تنبت زرعاً. وكل صراخهم هو صوت العجوز وهو يموت.
ما تقدمه غزة لنا ليس غامضاً ولا ملتبساً ولا يحتاج الى شرح ولا إلى دليل. هو حركة قائمة، واسمها بالمختصر أو بالشرح الموسع، بالدلالة أو بالمباشرة، غير قابل للتأويل، هو المقاومة.
من يجد نفسه في موقع الرافض للاحتلال وللعدو، ليس لديه خيار بعد اليوم. لا داعي للأحلام والتأمل والمناجاة، ولا إمكانية لرجل خفي يجمع الناس عنوة في موقع واحد. هو خيار الانتماء الى هذه المقاومة، ونقطة على السطر!
بعد ما يجري في غزة، ليس من حق أحد التذرع بهذه أو تلك من الأسباب المادية أو المعنوية أو خلافها، ليكون في قلب هذه المعركة. ومن يريد أن يجد لنفسه الأعذار، واجتراح الكلام الممجوج عن هذا النظام، وهذا الحاكم، وهذه العقيدة وهذه الفكرة وهذا الشعار، فليبق أسير أوهامه، وأسير فشله، وسيلفظه الناس مهما افترض لنفسه من مواقع وأدوار.
في غزة اليوم حكاية نعرفها. فيها فصل نحفظه ظهراً عن قلب، هو فصل الجريمة الإسرائيلية إياها. لكن فصلها الجديد هو فصل المقاومة التي لها صورها الجميلة، في قهر الغزاة، وتخزين ذاكرتهم بالمزيد من صور الهلاك التي لا يمحوها زمن.
في غزة اليوم، يقف مقاومون لهم أسماء وعناوين، ولهم آباء وأمهات وإخوة وأبناء. وهم يعرفون معنى حياتهم الحقيقية، حيث لا مجال لصمت على عدو أو متآمر أو مسهل للجريمة.
أما العدو، فله شهر تموز شهر الكارثة المستمرة. الشهر الوحيد في أي سنة. لا أيام تسبقه ولا شهور تليه. ولأن الذكريات هي لعنة الغزاة، فسيسكنهم الخوف في كل تموز من كل عام من كل دهر.